الكوفية:«اسرائيل دولة بلا سياسة خارجية»، هكذا وصفها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر منتصف سبعينات القرن الماضي، وهو يراقب هذه الدولة التي لا تشبه غيرها بمواصفات فريدة تتعلق بإرث التاريخ المضطرب، أو لواقع ما حدث لليهود في أربعينات القرن الماضي والذي تحول إلى هاجس سياسي منذ التشكيل، أو لجهة مسايرة العالم لهذه الدولة وإن كانت لم تتوقف على الدوس على التراث الإنساني منذ إقامتها.
لا يستغرب الباحثون في التاريخ طبيعة العلاقة بينها وبين العالم وصمت العالم على ما ترتكبه والذي وصل حد وصفه بالإبادة الجماعية، أما عن تشابك العلاقة مع الولايات المتحدة حد التبني فكان أفضل من وصفها الباحث منير العكش في كتابه « دولة فلسطينية للهنود الحمر» والذي أشار في أجزائه الأولى إلى تماثل نموذج التأسيس حد التطابق: طرد أصحاب الأرض الأصليين والاتكاء على الكتاب المقدس لتبرير هذا الطرد وإقامة دولة من مهاجرين على أنقاض الأصليين في توأمة نادرة تكاد تكون إسرائيل في نسختها طبعة مكررة، كل هذه الأمور ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار لصانع السياسة سواء معادياً لإسرائيل أو مصادقاً لها .
ولأسباب داخلية عادت إسرائيل لشن هجماتها المجنونة على قطاع غزة. فحتى كتابة هذا المقال مر خمسون ساعة على العودة قتلت خلالها سبعمائة فلسطيني نسبة كبيرة منهم من الأطفال وكذلك مثلها من النساء، وقوبل ذلك بلامبالاة عربية ودولية كبيرين تعيد للفلسطينيين سؤال اللحظة، وكيف يمكن قراءتها وسؤال « ما العمل « الذي يختلف عليه الفلسطينيون، كل يدافع عن موقفه لكن على الأرض لا يتوقف النزيف وتلك واحدة من مآسي هذا الشعب في عقوده الأخيرة، حيث يتعرض للدمار بمجموعة مغامرات وصراعات عدمية.
عودة الحرب كانت متوقعة منذ اللحظة التي وقعت فيها إسرائيل الاتفاق في كانون الثاني الماضي وقامت بتجزئة الصفقة على مراحل، وكان معروفاً لدى جميع من يقرؤون السياسة أن إسرائيل لن تتوقف عند هذا الحد، ففي توقفها وإنهاء الحرب وعودة حكم حماس للقطاع هزيمة لا يحتملها الإسرائيليون، فقد وجهت الحركة الإسلامية لإسرائيل ضربة للفكرة الإسرائيلية وللأمن القومي الإسرائيلي، الأمر الذي جعل من تفكيك القوة العسكرية لحماس وحكمها المدني لغزة هدفاً يحظى بالإجماع في اسرائيل.
وكما قال كيسنجر فالسياسة الداخلية هي الأهم، وهذه المرة كان وراء تسريع العودة للحرب إعادة تماسك حكومة نتنياهو المهددة، لكن الدوافع الإسرائيلية بإزالة حكم حماس هي الهدف الإستراتيجي والذي سيحقق لإسرائيل عدة أهداف مجتمعه منها إنهاك غزة وتغيير الوعي من خلال عملية الإبادة التي تمارسها، كما حدث في ألمانيا واليابان التي تعرضت شعوبها لعمليات سحق وإبادة ومنها يمكن أن يصل الأمر لإزاحة كل سكان قطاع غزة، حيث تدرك إسرائيل أن روح غزة هي التي تنتج كل هذا التصدي، ولم يجئ الأمر مع حركة حماس لينتهي معها فقد جاءت حماس على تلك الروح ولم تخترعها .
خطاب وزير الدفاع الإسرائيلي اسرائيل كاتس والذي هدد فيه سكان قطاع غزة بحرب أكثر قسوة من سابقتها وصولاً لتهجيرهم خارج القطاع ينذر بالأسوأ القادم. فإسرائيل يدها طليقة تحظى بدعم الرئيس الأميركي الذي هدد بفتح أبواب الجحيم على غزة، وكذلك الوسيط ويتكوف الذي هدد حركة حماس أيضاً، وقبلهم بتسلئيل سموتريتش، وكل تلك التهديدات كانت تتكئ على قوة اسرائيلية تمكنت من اجتياح القطاع ويمكن أن تكرر ذلك في أية لحظة، وكان منظر الجنود الإسرائيليين وهم يسيرون على الأقدام في مفترق نتساريم الذي أعادت احتلاله يشي بذلك.
لم يعد سؤال ما العمل يمكن أن يجد له جواباً في ظل النقاش الذي تسيطر عليه أجواء انفعالية تعبر عن فقدان الثقة بالنفس لفشل الخيارات، ولم يعد لدى حركة حماس ما تقدمه في ظل الضغط القائم، فالهدف هو استسلام الحركة كما كل الذين ينهزمون عسكرياً، لكن في هذا ما ترفضه الحركة سواء لأن ذلك يعني رفع راية بيضاء للاحتلال، ولكن الأهم أيضاً فإنه يحمل نهاية الفكرة لحركة أصرت على أن خيارها الوطني هو الأكثر جدارة بالتحرر من الاحتلال، لكن ثبت أن الخيار كان الأكثر فداحةً وعودة الاحتلال، فكل الذين استسلموا عبر التاريخ قد كتبوا شهادة وفاتهم بأيديهم، وهذا ما لا يمكن أن تقبله الحركة لتستمر مهما كلف الثمن.
تقف حماس في هذه اللحظة التاريخية عند مفترق طرق شديد الصعوبة أو هكذا جعلها الإسرائيلي، فقد وضعها أمام خيارات محدودة وأراد أن يجعلها إما بقاء حماس أو بقاء الشعب، إما رحيل حماس أو استمرار الحرب. فعودة الحرب تعبر عن ضعف ورقة الأسرى أمام الهدف الأكبر الذي تقف خلفه الولايات المتحدة، ولا تبدو في الأفق أية حلول، وفقط حالة وطنية جامعة يمكن أن تحتوي حركة حماس، فهي بحاجة لمن ينزلها عن الشجرة بكرامة وطنية، لأن الشعب يستطيع الصمود في المواجهات الصغرى، لكن المعارك الكبرى والإبادة بحاجة لحسابات مختلفة.