لا يختلف اثنان على حجم الدمار الذي خلفته الحرب الأخيرة على غزة والتي استمرت اكثر من عام وربع العام، وان كنا سنتحدث أو نحصي خسائر غزة في هذه المقتلة وحرب الإبادة البشرية فقد خسرت غزة الآلاف الذين تم إحصاؤهم، أما المفقودون والعالقون تحت الأنقاض والأسرى فأعدادهم لم يتم الوصول إليها، ولذلك فعلينا أن نحصي الخسائر المادية التي تشمل كل مناحي الحياة اليومية والمباني والمنشآت والممتلكات، وحسب الإحصائيات الأولية التي صدرت عن اكثر من جهة فهذه الخسائر قد طالها التدمير بنسب مذهلة بحيث إن الإعلان عن قطاع غزة كمنطقة منكوبة مثل المناطق التي تضربها الزلازل مثلا لا يحمل أي نوع من المبالغة في الوصف والتعبير.
ولكنك رغم ذلك تفاجأ بمن يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي إن الحياة قد عادت إلى غزة وهنا تكتشف حجم المصيبة المضاعفة أو انك سوف تنقلب على ظهرك سخرية مما ترى وتسمع لأن الحياة التي يتحدثون عنها هي حياة التجار وأصحاب الأموال الذين استغلوا مناسبة مثل شهر رمضان فأعادوا بأموالهم ترميم بعض المحلات التجارية والمطاعم لكي يضاعفوا من أرباحهم ولكي يعرضوا بضائعهم التي افتقدتها غزة طيلة أيام الحرب، وكأن عودة المطاعم التي تقدم الشاورما مثلا تعني أن الحياة قد عادت إلى غزة والحقيقة أن المال قد عاد ليجري واكثر من السابق في طريقه إلى جيوب أصحاب هذه المشاريع في حين أن غزة ما زالت مدمرة لأنك حين تريد أن تعلن عن مدينة حية فيجب أن تتكلم عن توافر الماء في البيوت بطريقة سهلة وليس عن طريق نقله في حاويات يحملها الأطفال الضعاف البائسون، وكذلك حين تتوفر الكهرباء دون متاعب كما في جميع أنحاء العالم لأن الجميع ينعم بها كمسلمة من مسلمات الحياة العصرية فيما تغرق غزة ببيوتها وشوارعها في الظلام منذ بداية الحرب.
وان كنت تريد أن تتحدث عن عودة الحياة فيجب أن تتحدث عن عودة التلاميذ إلى مدارسهم والمزارعين إلى حقولهم التي جرفت واقتلعت أشجارها والمستشفيات المرممة والتي عادت إلى العمل وخدمة المرضى والجرحى وبكفاءة مثل السابق أو اكثر.
تصدم حرفيا بمن يخبرك أن الحياة قد عادت إلى غزة والحقيقة أن الحياة لن تعود في غمضة عين ولا بين عشية وضحاها ولكن الحياة التي يجب أن تعود إلى غزة هي حياة الفقراء والمعوزين والمنكوبين الذين يقضون ليلهم في العراء أو في الخيام المهترئة فهؤلاء حين تتوفر لهم بيوت آمنة أو مساكن إيواء مؤقتة تحميهم من المطر وتدفئ أجسامهم فأنت يمكنك أن تقول، إن الحياة قد بدأت تعود إلى غزة، لأنك قد وضعت قدم المواطن البائس على أول طريق الحياة الآمنة وانك قد بدأت في منحه ابسط حقوقه وهو أن يحصل على البيت الآمن الذي يستره ويحفظ شرفه ويجلب الراحة والدفء له ولأطفاله.
لا تتحدث عن عودة الحياة من خلال الزينة والأضواء التي توضع فوق الأنقاض والركام وتذكر أن هناك عظاما تحت هذا كله شاهدة على تجبرك وتغاضيك عن مأساتها وبأنها تصرخ بكل وجع لكي تحصل على اقل حقوقها بأن يتم انتشالها وجمعها في قبر وان يكتب فوق شاهده اسم صاحبها لكي يزوره أهله أو من تبقى من أهله.
إن الحديث عن الحياة التي يجب أن تعود إلى غزة يعني أن تبدأ بتوفير مستلزمات الحياة الضرورية للفقير الذي ازداد فقرا وليس أن تقدم سيخا من الشاورما للغني الذي اشتاق وتاقت نفسه لتناولها ولكنها لم تكن متوفرة خلال الحرب واليوم، اصبح بوسعه أن يشتري كل ما تتوق إليه نفسه لأنه يملك المال.
الحديث عن عودة الحياة إلى غزة يكون حين يتم تنظيف شوارعها التي تغرق بالمياه العادمة وحيث يزكم انفك برائحة مياه الصرف الصحي وحيث تم تدمير شبكاتها تحت الأرض لكي تصبح بركا آسنة فوق الأرض ومصدرا للموت البطيء حيث تتجمع فوقها الحشرات التي تفتك بالصغار والمسنين والضعاف.
عودة الحياة إلى غزة يجب أن تسمعها من إنسان بائس في خيمة اكل البرد لحمه ونهش الجوع بطنه وحين تستطيع أن تعيد له قليلا من مظاهر الحياة الكريمة يمكنك أن تتحدث عن بدء العودة إلى الحياة.