كنتُ أسير نحو السوق، سمعتُ صوت انفجار قوي، التفتُّ نحو الدخان المنبعث من المكان، بسرعة اعتقدتُ أن الهدف هو مكان لجوئي، أعادت دقات قلبي السريعة قدميَّ إلى موقع الانفجار، كان الهاربون ينظرون إليَّ باستعراب وأنا أسير نحو موقع الانفجار، هم لا يعلمون أن في المكان زوجتي غير القادرة على الحركة السريعة، وهناك أوراقي وكمبيوتري الشخصي، لم أكترث بصوت رجل قال لي: أيها المجنون لا تذهب في هذا الاتجاه هناك قصف مدفعي وقنابل عديدة، لم أكن قادراً على الجري، كنت أحاول أن أستجمع بعض السرعة بسبب نقص الغذاء، كنت ألهث بشدة. صرخت فتاة أعرفها وهي جارتي في مكان اللجوء: ارجع ربما يعاودون قصف المبنى، قصفوا المبنى بقذيفة واحدة، يبدو أنها للتحذير ولم يصب سوى طفل صغير كان يلعب في الساحة بسبب تناثر الحجارة.
وصلتُ قريبا من مدخل البناء، جاران وحيدان يقفان بعيدا عن المبني، أحسا بالراحة عندما وصلتُ المكان، لم ينتظرا سؤالي، قال أحدهما وهو يشير إلى ثقب يقع بالضبط في الطابق العلوي لمكان نومي قنبلة مدفع اخترقت المبنى من الجهتين: لا تخف ابنتك وزوجتك غادرتا المكان بسلام، لا تدخل المبنى قف هنا بعيداً حتى ينجلي الأمر، كلُّ القاطنين في المبنى غادروا المكان، كان الاثنان ينتظران تقييمي وتحليلي، ألستُ محللاً سياسياً قادراً على استكناه خبايا الأمور؟ غير أنهما حصلا بصمتي وانقباض وجهي على الإجابة.
لم أكترث بالتحذير، وطئتُ أكوام الحصى المتناثرة على الأرض وعلى أدراج المبنى، لا أعرف كيف وصلتُ غرفة نومي التي تكفي فقط لتمدد اثنين على الأرض، ولا تسمح لي بأن أعلق ملابسي، لأن الغرفة كانت مخزناً لأدوات الرسم والنشاط الفني. لملمت بقايا أغراضي البسيطة، وحشرتُها في حقيبتي الصغيرة، لم أعد أشعر بالجوع، حشرت كمبيوتري وسط ملابسي خوفاً من أن يُكسر، بصعوبة وجدت حبلا صغيرا أطوي به الفرشتين والبطانيتين والوسادتين، حاولت أن أضغط بكل قوتي على فراشي ليتمكن الحبل القصير من جمعها معاً، فشلت، أعدتُ ترتيبهما من جديد وأنا أسمع حارس المبنى يقول : أسرعوا ريما يعاودون قصف المبنى، أخيرا تمكنت من عصرها داخل الحبل القصير!
غير أنني لم أكن أعلم كيفية نقل الحقيبة وكومة الفراش لإنزالها من الطابق الثاني إلى بوابة المبنى البعيدة، حاولت أن أرمي كومة الفراش إلى أسفل من أحد الشبابيك، غير أنني لم أجد شباكاً يتسع للكومة، قررت أن أحمل الحقيبة أولاً على كتفي، وأنزل بها لأنها تحتوي على كمبيوتري الشخصي وبقية ملابسي وملابس زوجتي، لا أعرف بالضبط كيف نجحت في رفع الحقيبة على كتفي وأنا مرهق وجائع، ولكنني أدركت أن الضوائق تُخرج من النفوس كل مخزونات القوة، لأن إرادة الحياة أقوى من الاستسلام للموت، فالسمكة تظل تحاول العودة للبحر حتى وهي مأسورة في يد الصياد، هبطت من السلم إلى الطابق الأول، ساعدني الحارس في إنزال كومة الفراش التي أصبحت نادرة الوجود بسبب النزوح.
أنا الآن عاجز عن إيجاد وسيلة مواصلات، فقد خلا المكان من البشر، كيف سأنقل فراشي وحقيبتي إلى مركز إيواء جديد في خيمة أخي الصغيرة القريبة من شاطئ البحر!
تحسست هاتفي المحمول، كان جثة هامدة فيه شحنة كهربية بسيطة، علامة الاتصالات تختفي تماماً، ليس هناك وسيلة اتصال لأطلب المساعدة، جررت حقيبتي ووضعتها بعيداً عن البناء بخمسين متراً تقريباً تحسباً لقصفٍ جديد، مكان لجوئي يقع على أطراف المدينة وهو الآن خالٍ من السكان بسبب خوفهم من القصف.
لمحت من بعيد أحد الجيران وقد نجح في إيجاد عربة يجرها حمار صغير، يسوسها رجل جاوز الستين من العمر، اتجهت إليهما، ليس هناك متسع في العربة، بالإضافة إلى اختلاف المكانين طلبتُ من صاحب العربة أن يعود لي بعد أن يُفرغ حمولته، فاشترط أن يكون السعر مضاعفاً، وافقت وعدت إلى كومتي المنثورة على الأرض بعد أن انقطع حبل الربط، حاولت أن أجمعها مرة أخرى ببعض قطع الحبال الملقاة وسط بقايا شجيرات الزيتون، تمكنت أخيرا من أن أجمعها في كومة كبيرة، جلست فوقها أتأمل المكان الفارغ من المشاة والسكان، لم أشاهد أحداً غيري في المكان، لم أكن خائفاً إلا أن يُخلف سائق العربة وعده ويجد عرضا أكثر إغراء مما طلبه!
حاولت أن أعتصر هاتفي مرات عديدة لعله ينجح في الاتصال بأحد، لكنني فشلتُ، خشيت أن يفقد آخر شحناته الكهربية، أمضيتُ ساعة ونصف وحدي في المكان أنتظر العربة! أخيراً قبل غياب الشمس بقليل لمحت سائق العربة من بعيد، وهو يحث الحمار الصغير على السرعة، كان يضرب ظهره بحبل مجدول من أسلاك الكهرباء كلما تعب! كنتُ أعتقد قبل هذا اليوم أن ضرب البهائم بهذه القسوة جريمة لا تُغتفر، ولكنني اليوم أصبحت أخشى من البوح بهذه العقيدة.
يبدو أن سائق العربة أصابه هلع الطمع في مكسبٍ سريع جمع بين حمولتين، فهو يحمل فوق عربته شحنة أخرى من الماء ومن أكياس الدقيق الذي يملأ خشب العربة باللون الأبيض، حاولت أن أحشر أمتعتي وسط هذه الأغراض، قال: اجلس هنا بين حقيبتك، وبين كومة الفراش وضع يديك عليهما لمنعمها من السقوط بسبب اهتزاز العربة، رفضت طلبه شفقة على الحمار المنهك، ولكنني لم أستطع إعلان رفضي بصوتٍ عالٍ، حمدتُ الله لأن الحمار أفرغ برازه بعيداً عن مكان جلوسي المقترح من السائق، الآن صار للحمار سائقان يسيران على الأرض، أحدهما السائق عن يمين والثاني أنا عن يسار.
وصلتْ العربة إلى شارع طفح المجاري الدائم، صيفاً وشتاء، كان الشارع غارقاً بمياه سوداء تفوح منها رائحة كريهة، ما ألزمني أن أركب فوق العربة مُكرها، حشرتُ جسدي بين صرة الفراش وحقيبتي، كان يجب عليَّ أن أواظب على رفع قدمي إلى أعلى حتى أبعدهما عن صديد مجاري الشارع، وكانت هذه مهمة شاقة جدا، لأن بعض السيارات كانت ترشق بقايا المجاري على أقدام السائرين وسط تلك البحيرة، وتصل بالطبع إلى قدمي، حاولت أن أرفعهما عالياً غير أنهما كانتا تصدمان بالسائرين، هذه الرياضة اليومية يمارسها كل النازحين في قطاع غزة!
هذا هو الشتات الثالث لعائلتي الصغيرة، زوجتي الآن في مكان لجوءٍ جديد، وابنتي في مكان ثان، وأنا في خيمة من قطع النايلون!
*من ملفات نزوحي في الشهر الرابع