عادت إسرائيل لهوايتها أو هويتها الطبيعية بعدم الالتزام بالاتفاق الذي اجتهدت قوى إقليمية وعالمية للتوصل له لتعلن على لسان إسرائيل كاتس وزير دفاعها وإيلي كوهين وزير الطاقة بعدم الانسحاب من محور فيلادلفيا، لم يكن الأمر خافياً منذ لحظة الاتفاق وجدولته على مراحل والقبول المؤقت لبتسلئيل سموتريتش للمرحلة الأولى بأن الأمر يحمل خديعة مدججة بسوء النوايا فمنذ أن احتل الجيش الإسرائيلي الشريط الحدودي كان نتنياهو يصفه بـ «أساس وجودنا».
لا يتعلق الأمر سوى بأن إسرائيل بسيطرتها على محور فيلادلفيا تحكم الطوق على قطاع غزة من جهاته الأربع، فقد كانت تغلق القطاع من الجهتين الشمالية والشرقية وهما الجهتان اللتان تلقتا ضربة السابع من أكتوبر، كذلك البحر المحاذي غرباً تسيطر عليه البوارج، لكن المنطقة الجنوبية والحدود المصرية التي تشمل معبر رفح كانت إسرائيل قد أخلت الشريط الحدودي العام 2005 التي تعتبرها منذ عام ونصف العام بأنها كعب أخيل السابع من أكتوبر وتتهم حركة حماس بحفر الإنفاق وتهريب السلاح.
ما يجعل إسرائيل تتشدد في معاملتها لحركة حماس هو عدة اعتبارات أولها الوضع الميداني الذي تمكنت فيه من احتلال القطاع وقدرتها على الإبادة والتجويع وحشر مليوني مواطن في شريط ضيق. فالمفاوضات هي تعبير دقيق عن موازين القوى ثم قدرتها على تغيير البيئة الإقليمية في صالحها كتحييد حزب الله بعد توجيه ضربات شديدة له واحتلال أجزاء من سورية وتحجيم إيران، يضاف لكل ذلك السبب الأكثر أهمية هو وصول رئيس أميركي للبيت الأبيض مجرد صدى صوت للمشروع الإسرائيلي ويحيط نفسه بمجموعة من المتطرفين الأكثر يمينية من إسرائيل منهم من يطلق التسمية التوراتية «يهودا والسامرة» على الضفة الغربية.
وتجد حركة حماس نفسها بين مطرقة الواقع شديد القسوة في غزة وسندان المناخات الإقليمية والدولية حيث الإجماع الإسرائيلي والأميركي والدولي على إنهاء حكمها لغزة أو كما يقول إيلي كوهين: «طردها من غزة»، وهذا الشرط الذي تتوافق معه السداسية العربية التي تجد في إعادة إعمار غزة فيما لو تم إجهاض مشروع التهجير مغامرة بوجود الحركة التي تخوض حروباً متواصلة مع إسرائيل تقوم فيها الأخيرة بتدمير ما يتم إعماره.
كل هذا يضع الحركة الفلسطينية أمام خيارات آخذة بالضيق مع الزمن وتفقد فيه مزيداً من الأوراق كلما أطلقت سراح مزيد من الأسرى.
ليس هناك شيء جدي لليوم التالي لا لدى الأميركي الذي يذهب بعيداً في خيالاته، ويرى في غزة مشروعاً استثمارياً سواء في بحرها الذي يجلس على مخزون هائل من الغاز وهو السلعة التي أعيد اكتشافها بعد حرب أوكرانيا كواحدة من أهم ضرورات السلم والحرب أو على يابستها كواجهة مطلة على البحر واحدة من أجمل شواطئ العالم.
ولا تجد تلك الرؤية الاستثمارية إمكانيات مواجهتها باعتبارها منتج القوة الأكبر في العالم وتتوافق مع حلم إسرائيل الذي سقط منها منذ النكبة.
تمديد المرحلة الأولى، هكذا تقلصت الصفقة التي بدأت بمراحل ثلاث تكون نهايتها إسدال الستار على مرحلة الحرب، ولكن من يعرف العقل الإسرائيلي كان يدرك أن وقف إسرائيل للحرب وعودة الأوضاع بحكم حماس للقطاع مسألة غير ممكنة وهو ما تنبه له كثير من المثقفين مبكراً مطالبين بإيجاد حل يقطع الطريق على استمرار سحق القطاع.
لكن الحركة لم تفهم مبكراً واقع السياسة في المنطقة بل انتقدت كل من حاول أن يرى الأمور مبكراً قبل أن نصل إلى تلك الثنائية التي تصب جميع سيناريوهاتها في صالح إسرائيل سواء بقيت حركة حماس تحكم غزة أو غادرتها كما يطرح كوهين، ففي المغادرة ما يقدم نصراً صافياً لإسرائيل كان الفلسطينيون بغنى عنه وفي بقائها ما يمنع الإعمار ليحولها لمنطقة بائسة وطاردة تصب في مشروع المغادرة الطوعية.
يدرك العرب حجم الأزمة، أمام ترامب الهائج يحاولون تقديم مشروع باتوا يدركون أن احتمالية قبوله ضعيفة، فلا العرب سيساعدون إسرائيل بحكم غزة كما يتصور يائير لابيد الذي يقترح مصر في محاولة للعودة للماضي كأن الفلسطينيين يتامى يبحثون عن أب، وإسرائيل ترفض حكم غزة وتولي مسؤوليتها ويجد العرب في السلطة بعد إعادة إعمارها خياراً وحيداً يشترط إبعاد حماس عن الحكم.
فالعرب وعلى رأسهم السعودية غاضبون من الحركة ليس لجهة جهل حساباتها بل إن الدولة الخليجية الأكبر غاضبة على الحركة التي لم تنتبه في نشوة السابع من أكتوبر لما سقط منها من تصريحات وهي تبرر العملية الكبرى بأن أحد إنجازاتها أنها قطعت الطريق على تطبيع السعودية مع إسرائيل لتبدو كأن أحد أهداف العملية موجه ضد الرياض رغم موقفها الذي ربط مبكراً التطبيع بدولة فلسطينية.
في كل مرة نكتب عن مأزق من تلك التي تتناسل تباعاً كجزء من واقع شديد الصعوبة، وتتأخر الحالة الفلسطينية في التقاط اللحظة التي يجب أن تتقدم فيها تكابر وتهاجم وتنتقد ثم تدرك متأخرة باحثة عن حلول تكون اللحظة قد أفلتت وجاءت بأزمة أخرى تفاقمت وأصبحت أكثر استعصاء يجري خلالها نفس النقاش والإنكار، وهكذا يزداد الوضع الفلسطيني غرقاً ليجد نفسه في كل مرة أسير لحظة أشد صعوبة من سابقتها.