قد تكون الكتابة خارج الإبادة التي يتم ارتكابها في غزة نوعاً من الترف لأي فلسطيني مصاب بلوثة الدم الذي سال بلا توقف من شعبه.
فلا شيء يتوقف عنده التاريخ يساوي مأساة اللحظة شديدة السواد التي لم يتوقف العداد اليومي للشهداء فيها عن الإحصاء.
سورية ليست بعيدة عما يحدث، فأحجار الدومينو العربية تتحرك بلا توقف وخاصة أن هناك رابطاً مشتركا بين كل ما يحدث كفاتحة لشرق أوسط جديد لم يخفِ نتنياهو إعلانه كمسار لهذه الحرب، وها هو يتولد للقضاء على محور ظن بإمكانه أن يشاكس وينافس مشروع إسرائيل في المنطقة بصرف النظر عن الأدوار لكل من عناصره.
ولنذكر الاجتماع الذي عقده مبكراً مستشار الأمن القومي الإسرائيلي حينها مائير بن شبات منذ بدايات الأزمة السورية العام 2011 مع السفراء الأجانب ليبلغهم أن لا مشكلة لإسرائيل مع الأسد ولكن سقوطه يعني قطع الطريق على حزب الله وتجفيفه، تلك كانت نذر الحرب في سورية.
لا يحتاج الأمر كثيراً من التحليل لقراءة مسار الأحداث في المنطقة بوجود الطرف الإسرائيلي الذي يبرع في تحويل كل محنة إلى منحة، ولو لم نكن نعرف عن غرفة عمليات غرف التخطيط ربما كنا سنتوه في التحليل ولو لم نكن نعرف عن غرف العمليات المستنسخة في تركيا والأصابع التي كانت تحج إلى هناك ربما يأخذ التفسير شكلاً مختلفاً، ولو لم يخرج مسؤول عربي من الدول التي لا تتحرك خارج الفلك الأميركي الإسرائيلي ليفاجئنا بصرف 40 مليار دولار «لصيد الطريدة «وإسقاط سورية على يد الجماعات المسلحة ربما سيكون هناك قول آخر، ولو لم يعلن نتنياهو إطلاق صافرة الإنذار ربما يكون في الأمر شيء آخر، لكن تجاهل كل تلك الحقائق يبدو نوعاً من استغفال التاريخ.
يستحق الشعب السوري أفضل كثيراً من بشار الأسد وريث أبيه، وتلك نقطة الضعف التي تتكئ ماكينة غسيل الدماغ المصاحبة لغرفة التوجيه ووريثاتها التي توزعت على امتداد العواصم دون أن يدرك من لم يقرؤوا بعمق مستوى الإنتاج الثقافي للمنطقة العربية، وما تفرزه من مستوى سياسي توزع من الخليج إلى المحيط كسمة للاستبداد العربي لم تحتكره سورية وحدها بل إن الأسد هو أحد منتجات مصانع عقولها وإن كان من الطبعات الأكثر سوءاً ولكن هل كان صدام حسين أقل بطشاً أم ما فعله جنرالات الجزائر بخصومهم أكثر رحمة من عائلة الأسد؟
ذات مرة تحرك شعب البحرين متأثراً بموجة ما عرف بالربيع العربي قبل أن يكتشف العرب أنه كان خريفاً سقطت فيه كل الأوراق لتتحرك قوات درع الجزيرة.
فماذا لو استمر البحرينيون في احتجاجاتهم ؟ بالتأكيد كان سيكون الأمر ترجمة للبطش وماذا لو استمر المتظاهرون الذين خرجوا ذات يوم في غزة باسم «بدنا نعيش»؟
نحمد الله أنها توقفت وإلا شهدنا ترجمة للعقل العربي وهناك الكثير في تاريخنا العربي الحديث جداً يعكس في أي مستوى حضاري نحن ومستوى منتجنا السياسي والإداري كوريث لاستبداد الشرق.
وإن كانت الشعوب العربية جديرة بالحياة وجديرة بحكام أفضل ممكن حكموها ويحكمونها وأولهم بشار الأسد ولكنهم أبناء ثقافاتها وشعوبها ولم يسقطوا من السماء وهو ما يفتح على أزمة السياسة العربية والمؤسسة العربية الذي تدير أوطاناً بمغامرات القبائل ومستواها وحروبها وعدائها للديمقراطية وحقوق الإنسان الغائبة في هذا الجزء من العالم.
وبالتالي فإن الديمقراطية وحقوق الإنسان حيث يتشابه كل الحكام العرب في مصادرتها لا تصلح كمعيار للحكم، لأن الكل في الديكتاتورية واستهداف الخصوم والسجون سواء، حيث يتوزع القمع بالتساوي وبلا استثناء لكنها دوماً ما تستخدم ضد نظام معين عندما تعلن عليه الحرب.
أتذكرون كيف تمت شيطنة صدام ؟ القذافي ؟ ياسر عرفات وقصة إصلاح السلطة ومصطلحات الحوكمة ومحاربة الفساد التي استدعيت آخر فترة حكمه تمهيداً للقضاء عليه وما أن تم حتى تم سحبها من التداول من بورصة السياسة.
ظهر خطر على إسرائيل حيث أطلق السابع من أكتوبر صافرة إنذاره لتشتعل كل الأضواء الحمر لدى العواصم وأبرزها تل أبيب، وهي دولة إقليمية مهيمنة صاحبة مشروع في ظل غياب مشاريع عربية في منطقة تتنافس فيها ثلاث قوى إقليمية غير عربية لن تنهي هذه الحرب دون القضاء على كل مكونات التهديد الذي حاوله المحور الذي تقوده إيران ورأس حربته حزب الله وقطع طريق الإمداد عبر دمشق.
عودة على الفكرة الأولى لمئير بن شبات هكذا بكل بساطة قطعت إسرائيل رأس غزة ووجهت ضربات قاسية لحزب الله ويستكمل الأمر بقطع الطريق، وسيجيء الدور على إيران لتتم هندسة الشرق الأوسط.
يصطدم هذا التفسير للوقائع مع الشعب الذي عانى من أسوأ عملية قمع وتهجير ويتوق للعودة إلى مدنه التي هرب منها شريداً إلى المنافي وحق عودته للديار، لكن أن تكون حريته على يد جماعة القاعدة ومشتقاتها وبتوجيه من دولة منافسة إقليمياً على جثة البلد العربي المريض تلك لا تحتاج إلا إلى الترحم على حاضر العرب ومستقبلهم ... ومُنَظّريهم أيضاً.