لن تكون إسرائيل دولة طبيعية، فقد اعتقد آباء المشروع أن كل ما هو مطلوب من أجل ذلك هو قدرتها على بناء علاقات طبيعية مع دول الجوار، وهذا ما حاولت فعله منذ حروب النكبة مع بن غوريون وصولاً إلى بنيامين نتنياهو وما بينهما ... تمكنت من تحقيق جزء من النجاح على هذا الصعيد الذي بدأ في اتفاق كامب ديفيد وانتهى بالتطبيع الإبراهيمي.
ولكنها تكتشف الآن أنها ليست دولة طبيعية من الداخل، فلا التطبيع قادر على وقف التدهور ولا الولايات المتحدة أيضاً فهي تسير في خط بياني هابط ثابت ينقلها نحو دولة مختلفة.
دراما مؤسساتية تشبه دول العالم الثالث في جملة الصراعات في الدولة حكومة في حالة عداء مع جمهورها ومع المعارضة، ووزير دفاع سابق يتحدث عن التطهير العرقي وتنهال عليه كل أسهم الحكومة والمعارضة وكنيست بات يشكل الذراع التنفيذية لمشاريع شخصية لرئيس الحكومة الذي تتم محاكمته بتهم فساد، ووزير دفاع يبدأ حملة تطهير بالجيش ممن عرفوا بأخوة السلاح وتحويله إلى ما يشبه جيوش العالم الثالث الموالية.
وحدة التحقيقات «ماحاش» في الشرطة الإسرائيلية تحقق في فساد داخل المؤسسة من تحرش جنسي وتعيينات تمت على أساس الولاء وكيف أصبحت هذه المؤسسة تعمل كما المافيا التي يديرها وزير يشبه زعماء العصابات مع تهم سابقة، ووزير العدل زئيف ألكين يهين المحكمة العليا بتجاهل طلبها بتعيين رئيس لها، المستشارة القانونية غالي بهراف ميارا أصبحت شاخص رماية للحكومة من قبل الائتلاف الذي يطلق نحوها الرصاص بلا توقف.
سجين من مكتب رئيس الحكومة «فيلدشتاين» يقوم باسم رئيس حكومته بتسريب وتزييف وثائق، ورئيسه المباشر ينكر معرفته به ووزير ماليه لا يهمه سوى المستوطنين واستيطانهم ووزير الشرطة يدير عصابات بلطجة ورئيس وزراء لا يفكر سوى بالبقاء، وأحزاب دينية تعلن الحرب على كل من يقترب من تجنيد أبنائها أو من يقترب من موازناتها.
وهذه العصبة هي تقود دولة ترتكب إبادة جماعية تطلب المحكمة الجنائية الدولية مسؤولها الأول للمحاكمة أما منسوب الكراهية بين مكونات المجتمع فيبلغ حداً لا ينذر سوى بعودة صراع الأسباط القديمة.
كان واضحاً مسار إسرائيل الثابت داخلياً نحو الهبوط الذي لم يظهر في عقودها الثلاثة الأولى بينما كانت تعيش نشوة التأسيس.
ولكن بدأت الأعراض تظهر في ثمانينيات القرن الماضي وبلغت ذروتها في العام 2023 مع الانقسام المجتمعي الذي كان يظهر كل مساء سبت في شوارع المدن الإسرائيلية وأكبرها في شارع أيالون في تل أبيب.
لم يكن الأمر بسبب تشكيل حكومة أو فقط لتغيير قانوني بقدر ما هو وصول التصادم في المجتمع إلى لحظته الحرجة.
كان بن غوريون الذي يضع حجر أساس الدولة هو من يزرع فيها بذرة الأزمة التي طال حملها، فقد سأل مساعديه فور إقامة الدولة وبعد مطالبة حاخامات الأغودات عن عدد الشبان المتدينين الذين تنطبق عليهم شروط الخدمة العسكرية فأجابوه: 400 شاب قال: «اتركوهم يقرؤون التوراة» من هنا ولدت أزمة تنامت وتضخمت فتكاثر المتدينون وشكلوا أحزاباً ومؤسسات ومدارس خاصة ومعاهد طلاب التوراة وابتزوا الحكومات لتبيئة القوانين لصالح تكاثرهم من إعفاء طلاب المعاهد من التجنيد فتفرغوا للإنجاب ودعم العائلات كثيرة الأولاد. وهكذا رويداً رويداً كان المجتمع يشهد انزياحاً نحو حالة دينية دوماً ما تصنع الحالات الدينية بيئة لتدمير المجتمعات والفساد والكراهية وازدراء القوانين واحتقار الآخرين في المجتمعات وهي عادة ما تكون وصفة تفتيت لها، وهكذا تدرجت إسرائيل نحو الهبوط لتبدو على ما هي عليه.
ينقل الكاتب الإسرائيلي تسفي برئيل عن توماس جيفرسون مقولة «عندما تخاف الحكومة من الشعب يكون هناك حرية وعندما يخاف الشعب من الحكومة يكون هناك دكتاتورية».
فقد كانت كل حكومات إسرائيل تخاف من الشعب الإسرائيلي إلا هذه الحكومة التي تدير ظهرها لكل شيء وتنشئ دكتاتورية يصفها الكاتب يوسي كلاين بأنها على طريقة المافيا وهي تفكك المحكمة العليا وتؤخر تعيين لجنة القضاة وتضرب يميناً ويساراً بلا ضوابط.
الطبقة المثقفة باتت تعلن قلقها من الأجواء القائمة التي تصنعها مُناخات التدهور وباتت تكتب عن تشاؤمها من الراهن والقادم، فالسيطرة التي تقوم بها الحكومة على مفاصل الدولة، على الجيش والشرطة والقضاء وإقصاء المعارضين واعتماد الولاءات في المواقع والتلاعب بالمعلومات ومحاضر الاجتماعات تأخذ إسرائيل نحو دولة مختلفة كلياً، دولة دكتاتورية فاسدة على نمط الدول الفاشلة، فقد تكرر مصطلح المافيا في أكثر من مقال، هكذا يتم تسريب المعلومات وحين تحتج مؤسسات الرقابة تذهب الحكومة للكنيست لتشريع التلاعب، هذا لا يحدث في دولة سوية.
مصدر التشاؤم ليس فقط بسبب الحكومة التي تقوم بتجريف الإرث الإسرائيلي بل لأن هذه الحكومة هي ابنة مزاج عام ونتاج انزياح إسرائيلي لا يمكن وقفه.
فالمتدينون يقاتلون بأسنانهم فقد أصبحوا كتلة كبيرة قادرة على المواجهة إن كان في الحكومة أو حتى في المعارضة. لكن الخطر بالنسبة للإسرائيلي العادي أن الدولة يتم تفريغها من علمانيتها الصلبة وتتم زراعة الفكر الديني في مفاصلها وسيصيبها ما أصاب كل المجتمعات التي حكمتها قوى وأفكار دينية.