غالبية كبيرة من المتابعين والمراقبين ظنّوا أن وقف إطلاق النار في لبنان، والعمل الجاري للوصول إلى وقفه في قطاع غزّة، ربّما يؤشّر على درجة عالية من استبعاد اندلاع حرب إقليمية.
وإذا نظرنا إلى وقف إطلاق النار الأوّل، أي في لبنان فهو بمثابة رغبة مباشرة لإدارة جو بايدن في بواقي أيّامها في البيت الأبيض. كما أنّ التوصّل إلى صيغة مشابهة في القطاع يبدو أنّه رغبة من هذه الإدارة.
وبالرجوع إلى تصريحات ترامب فإنّها تأتي في نفس السياق مع فارق التعبير الفظّ، والعنتريات الفارغة التي يُرفقها ترامب بهذه التصريحات، والتي ليست سوى محاولة للإيحاء بأنّ تهديداته هي التي أدّت، وستؤدّي إلى تحقيق "الهدوء" المطلوب قبل تولّيه لمهامه في 20 كانون الثاني القادم.
لكن الحقيقة ليست هنا بالضبط، فإدارة بايدن هي من ضغطت على بنيامين نتنياهو لقبول فوري وسريع لوقف إطلاق النار في لبنان، خوفاً من أن تؤدّي المغامرة الإسرائيلية في المرحلة الثالثة من الحرب البرّية إلى هزيمة عسكرية كبيرة، كانت ستكون هزيمة أكبر للإدارة الأميركية، وكانت ستكون نقطة تحوّل "خطرة" على الدور والمكانة الأميركية في كامل الإقليم، وكان يمكن أن تؤدّي تحت ضغوط الانكسار العسكري الإسرائيلي إلى "تورّط" إدارة بايدن في حرب إقليمية طاحنة قوامها ليس القوات البرّية، وإنّما هجمات جوّية وصاروخية مدمّرة على إيران وسورية ولبنان، وربّما على العراق واليمن، وهجمات مقابلة على الدولة العبرية، وعلى القواعد الأميركية في كامل الإقليم، إضافة إلى إمكانية اندلاع حروب بحرية طاحنة في البحر الأحمر، وبحر العرب، وفي سواحل شرق المتوسّط، ولم يكن مستبعداً بالكامل أن تطال المعارك الطاحنة المنشآت النفطية، والبنى التحتية في معظم دول الإقليم.
وتبدو الخطّة الأميركية الجديدة، ولتفادي الوصول إلى حرب كهذه هي الاستعاضة عن هذه الحرب بالحروب "الموضعية" التي تجعل إدارة ترامب متورّطة في تعقيداتها وتشابكاتها، وغير قادرة على الخروج منها ولا هي بقادرة على التوغّل فيها.
والحرب التي تشنّها الآن ميليشيات الإرهاب الإسلاموي، والتي هي حرب بالوكالة عن الخطط الأميركية الإسرائيلية لإعادة "هندسة" الإقليم، والتي ليس لها أيّ علاقة من أيّ نوع كان بمفهوم المعارضة، وهي ليست طرفاً من أطراف أيّ حرب أهلية.. الحرب التي تشنّها هذه الميليشيات هي النسخة الأولى في سلسلة الحروب الموضعية للدولة العميقة في الولايات المتحدة.
أمّا النسخة الثانية والثالثة فهي النسخة التي تحوّل الحرب على "حزب الله" اللبناني حرباً قائمة من خلال الموافقة على وقف إطلاق النار، دون إنهائها، وهي نفس الصيغة التي سيشملها وقف إطلاق النار في القطاع، وهي الصيغة التي ستسود في استمرار حروب ومعارك أخرى ضد اليمن والعراق لإنهاك "محور المقاومة"، ولمشاغلة إيران فيها كلّها، والمراهنة على كسر الحلقة السورية باعتبار هذه الحلقة هي مفصل التواصل بين مكوّنات "المحور"، ومفصل الدعم والإسناد للحرب ضد عدوانية وتوسعية المشروع الصهيوني في الضفة وغزة، ومفصل التصدي للهيمنة الأميركية الإسرائيلية على الإقليم "الجديد"، كما تخطّط له واشنطن.
وقد ثبت الآن، وبصورة قطعية أنّ الإدارات الأميركية كلّها ليست على أيّ استعداد من أيّ نوع كان للذهاب إلى حلّ متوازن يتضمّن الحدود المعقولة من الحقوق الوطنية الفلسطينية، وهو ما يفسّر إلى حدّ بعيد السبب الذي يجعل هذه الإدارات تبحث عن ما من شأنه أن يتفادى مثل هذا الحلّ، والعمل بكلّ طاقتها بهدف إبقاء الحروب مشتعلة دون سقف الصدام الإقليمي الطاحن لأسباب تتعلّق بالوضع الواهن والمخلخل في دولة الاحتلال كذراع رئيسة في حرب كهذه، ولأسباب تتعلق برفض المجتمع الأميركي التورّط في حرب كهذه بمشاركة مباشرة للقوات الأميركية بمئات آلاف الجنود بعد الفشل في كلّ من أفغانستان، وقبلها العراق، وبخسائر فاقت الـ 5 تريليونات دولار في هاتين الحربين فقط، وفق أقلّ التقديرات، كما أنّ هناك ما يكفي من الأسباب التي تتعلّق بضعف الاقتصاد الأميركي نفسه، وأخرى تتعلّق بصعوبة جرّ الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في "الغرب" لهذه الحرب.
لهذا أقدمت الولايات المتحدة على هذه الحرب باستخدام "الصهيونية الإسلاموية الجديدة" حسب التعبير الموفّق للإعلامي اللبناني ناصر قنديل، وهي تستخدم الصهيونية اليهودية الإسرائيلية في حروب المنطقة، وتستند في شقّها "الجمهوري"، وفي نسخته "الترامبية" إلى الصهيونية المسيحية.
والصهيونية الإسلاموية التي رأيتم حقدها على العلم الوطني الفلسطيني، ورأيتم بعض قادتهم يحدّدون دولة الاحتلال كشريك لهم ضدّ "نفس الأعداء" هي التي تقوم بهذه الحرب، وبهدف تحقيق الأهداف الأميركية الصهيونية في إرباك "محور المقاومة"، ومحاولة زعزعة تحالف "المحور" مع الدولة الروسية، والتشويش على قدرة الأخيرة في دعمه في ظل احتدام القتال في أوكرانيا.
ما لم يخطر ببال الرئيس بايدن أن هذه الحرب "الموضعية" هي القابلة أكثر من أي حرب موضعية، أخرى لتنقل كامل الإقليم إلى حالة الحرب الإقليمية الطاحنة في أيّ لحظة من لحظات تحوّلها بهذا الاتجاه، أو بالاتجاه المعاكس، ومن أين لترامب أن يفهم هو وطواقمه التي تنتمي لعتاة الصهيونية المسيحية هذا القدر من المكر والخبث الذي تنطوي عليه الحرائق التي أشعلها بايدن أمامه، ووضعه أمام هذه الأخطار؟!
قلنا في المقال السابق إنّ هذه الحرب ستنتهي إلى حسم عسكري كبير، وأنّ لا مجال أمام دور وقوى "المحور" إلّا الحسم النهائي، لأنّ هذه الحرب تُخاض من قبل جماعات الإرهاب لحساب الخطّة الأميركية الصهيونية لـ"الشرق الأوسط الجديد" كما تفهمه الإدارة "الديمقراطية" المغادرة، ولهذا بالذات فإنّ الدفاع عن الدولة السورية، وعن النظام السياسي فيها، بصرف النظر عن أيّ ملاحظات عليه الآن أو قبل الآن، أيضاً، قد أصبح على جدول الأعمال التنفيذي لهذه القوى، ولهذه الدول في "المحور"، وليس أمامها سوى أن تخوض هذه الحرب بكل ما تملك من قدرات ومقدّرات.
والذي أراه على هذا الصعيد أنّ الدولة السورية ستخرج من هذه الحرب أقوى مما كانت عليه قبل خوضها، وأنّ النظام السوري سيتعزّز دوره وطنياً وإقليمياً أكثر مما كان دوره قبل الدخول فيها.
العرب ليسوا مع جماعات الإرهاب كما كانوا معها في السنوات التي سبقت الانتصار السوري عليها، والعرب اليوم لا يرغبون بإعادة تجربة "داعش" التي ثبت أنها قد جاءت لتدمّر المنطقة تحت غطاء مذهب مفبرك في دوائر المخابرات المركزية الأميركية، والعرب يعرفون أنّ لا علاقة على الإطلاق لهؤلاء بأيّ عروبة أو إسلام، وتستخدمهم تركيا لتحسين مواقعها الإقليمية من خلال الملفّ السوري، بعد أن أفل الدور التركي لأنّه لم يستطع تجاوز حالة الماء بمواصفاته المعروفة: لا لون، ولا طعم، ولا رائحة، وما يصبح عليه رجب طيّب أردوغان لا يُمسي عليه من اليوم نفسه.
والمراهنة على دور احتلالي إسرائيلي أو أميركي مباشر هي مراهنة خاسرة لأنّ هؤلاء يوظفون من يموت من أجلهم، وهم لا يموتون من أجل موظّفيهم.