كيف تتمكن الولايات المتحدة من استخدام الفيتو في مجلس الأمن ضد وقف حرب الإبادة التي تجري في قطاع غزة وفي نفس الوقت تتحدث عن حقوق الإنسان ؟.
تلك أحجية تحتاج إلى أن تكون أميركياً كي تتمكن من حلها، وتحتاج لضمير مطاطي قادر على التقلب بسرعة شديدة لا يجد فيها أي نوع من الخجل، لكن في السياسة فإن كلمات من نوع الضمير والخجل تبدو كلمات بريئة وخصوصاً لدى راعي البقر والدولة التي تملك فرادة في تشكيلها.
أقيمت الولايات المتحدة على أنقاض قتل وطرد شعب كامل ووضع من تبقى منه في معازل «شعوب الإزتيك والمايا».
حينها تبدو الشكوى من طرد الشعب الفلسطيني وإبادته نوعاً من النكتة بالنسبة للأميركي الذي يرد عليك «نحن فعلنا ذلك من أجل إقامة دولة متحضرة، ما المشكلة ؟»، أقيمت الدول نتاج تطور حضارات معظمها بجانب الأنهار لأسباب اجتماعية واقتصادية وتاريخية، لذلك لم يكن من المصادفة أن يكون النهر جزءا من معالم أي عاصمة نهر السين في باريس والتايمز في لندن وبردى في دمشق والنيل في القاهرة، وكذلك برلين وبغداد، كلها تطورت تطورا طبيعيا وصنعت حضارتها بالتراكم على ضفاف الأنهار.
لكن تشكّل الولايات المتحدة لم يكن طبيعياً بل كان بالسيف ضد شعب البلاد، وجاء نهر بوتاماك الذي ما زال يحمل تسمية الشعب الأصلي ويقسم العاصمة واشنطن لأنه كان حدوداً بين متصارعي الحرب الأهلية في أميركا ليكون عنوان مصالحة المصالح لا عنوان حضارة تطورت بالتدريج.
وهذا التشكيل شديد التطابق مع إسرائيل ما يجعل توأمة العنف وثقافته هي المحرك الرئيس للقرار السياسي بين الدولتين وعلى العالم أن يدفع ثمن ذلك، وخصوصاً أن التاريخ قد وضع كل ممكنات القوة في يد الولايات المتحدة في قرنه الأخير. لذا فإن الحديث عن الحقوق والعدالة في ظل نظام كهذا يبدو نوعاً من الترف الفكري.
تحتاج المؤسسة العربية أن تدرس الولايات المتحدة، فهي كيان كبير وقوي ولها شخصية وجانب ثقافي وسيكلوجية وبصمة فريدة تقف خلف سلوكها السياسي المكلف للبشرية وخصوصاً الشعوب الفقيرة والمظلومة بعيداً عن الانشغال الذي يستنزف المؤسسة العربية بالحفاظ على السلطة وتهميش مراكز البحث العلمي. فالبعض اعتقد أنه بالمال يمكن التأثير عليها ولكن دون معرفة ليجد نفسه يدفع بلا نتائج كصراف آلي والبعض اعتقد أنه بالعلاقات الشخصية والعواطف يمكن التأثير على بلد بلا عواطف ليجد نفسه يعمل لديها، أما البعض الآخر فناصبها العداء وهكذا انقسمت الحالة العربية تجاه الولايات المتحدة في علاقة اتخذت شكلين متنافرين دون قراءة، إما الولاء المطلق أو العداء المطلق وفي الحالتين هذا جهد لا يقدر عليه العرب ويفوق طاقتهم.
كيف يمكن لدولة أن تتجاهل قتل عشرات الآلاف معظمهم من النساء والأطفال في محرقة طالت عُشر سكان منطقة بل وتعمل جاهدة على استمراره وتقف حارساً على بوابات مجلس الأمن أمام أي محاولة حتى للحديث عن وقف المذبحة ؟ وفي هذا السياق لماذا لا تذهب المجموعة العربية للأمم المتحدة لتقديم مشروع الاعتراف بمحرقة الفلسطينيين ولتجريم إنكار الإبادة أو المحرقة ؟
ولأن أميركا هي أميركا ولسوء حظ البشرية أن أميركا نفسها هي من أشرفت على هندسة المؤسسات الدولية وإنشائها وبضمنها المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت أخيراً القرار الذي طال انتظاره بإصدار مذكرات الاعتقال لبنيامين نتنياهو ومساعده الصغير يوآف غالانت. وهو القرار الذي ستقف الولايات المتحدة ارتباطاً ببصمتها التاريخية بوجهه كعادتها في معاداة العدالة بل والذهاب نحو معاقبة المحكمة الجنائية كما العرف الأميركي، وتزداد احتمالات ذلك مع وصول دونالد ترامب المعادي للقوانين، فقد صدر ما يكفي من التهديدات من قبل الكونغرس على مدى الأشهر الماضية ضد المحكمة وقضاتها.
ففي العرف الأميركي تنتصر الجريمة على القانون، وفي العرف الأميركي يتم احتضان المجرم ومهاجمة المحكمة، وفي العرف الأميركي تتم رعاية الإرهاب ومعاداة العدالة وتتم مكافأة مرتكبي الإبادة ومعاقبة الشعوب التي تتعرض لها.
هكذا يسير ميزان العدالة الأميركي شديد الاعوجاج في دولة ذات ثقافة تعلو فيها قيمة قطرة النفط على قطرة الدم، وقيمة المال على قيمة الأخلاق بعد تجربة مريرة من القتل اليومي في غزة ضد الأهل والأصدقاء والأحبة والعائلات والشعب المغلوب على أمره.
ردود الفعل الإسرائيلية من الحكومة والمعارضة الهستيرية مدعاة للغضب وللسخرية أيضاً ...ما هذا ؟ وبصرف النظر عن تلك الهذيانات المثيرة للإشمئزاز، على إسرائيل أن تعرف أنها تصطف من الآن فصاعداً إلى جانب الدول التي ارتكبت إبادة وأن ممثلها المنتخب هو مجرم حرب كما كل مجرمي التاريخ، وباصطفاف المعارضة في مهاجمة المحكمة الدولية يبدو النظام السياسي في إسرائيل كله يصطف خلف الجريمة، وهذه قصة كبيرة تتحمل مسؤوليتها الدولة الأكثر انفلاتاً ... الولايات المتحدة.