الكوفية:كانت الساعات الماضية حُبلى بتطورات المبادرة الأميركية لوقف الحرب على الجبهة اللبنانية، بعد صياغة مسوّدة تم تسليمها للحكومة اللبنانية قبل أيام، وردّت لبنان عليها بعدد من الملاحظات، في ظل توجه عام إسرائيلي ولبناني وحتى إيراني ينشد وقف الحرب. ولا تعد تلك المبادرة الأولى من قبل الولايات المتحدة، لكنها الأهم، انطلاقاً من توقيتها والتطورات في ساحة القتال، ومدى حدود التجاوب معها. ولعل احتمال الوصول لاتفاق على الجبهة اللبنانية أكثر واقعيةً وإمكانيةً من الوصول لاتفاق مشابه في غزة؛ وتعكس ذلك قراءة لتصريحات بنيامين نتنياهو رئيس وزراء حكومة الاحتلال وما بين سطورها تجاه الجبهتين. وتشكل كذلك طبيعة المعارك على الجبهتين ونتائج المعركة ومدى واقعية تحقيق الأهداف المعلنة على الجبهتين احتمال حدوث تلك النتيجة، بالإضافة لواقع وتفاعل الأحداث على الجبهة الداخلية الإسرائيلية أيضاً.
في حين اتهم أهالي المحتجزين في غزة نتنياهو بإفشال صفقة التبادل مع حركة حماس، خلال كلمته أمام الكنيست يوم الإثنين الماضي، ورفض نتنياهو طلب رئيس الموساد الحصول على مساحة إضافية للمناورة في مفاوضات تلك الصفقة، يواصل نتنياهو وفريقه متابعة تفاصيل صفقة وقف الحرب في لبنان. وقد تعكس تصريحات نتنياهو وحدود الأهداف المعلنة تجاه الحرب في لبنان وغزة استشراف مدى إمكانية تحقيق صفقة على الجبهتين. أكد نتنياهو في خطابه الأخير أمام الكنيست أن هدف الحرب في غزة هو القضاء على حركة حماس، بينما أشار أن هدف الحملة في لبنان هو تدمير قدرات حزب الله الصاروخية. وبينما اعتبر أن الحرب على غزة تأتي من أجل وجود ومستقبل إسرائيل، أكد أن الحرب في الشمال تهدف لإعادة سكان المستوطنات القريبة من الحدود مع لبنان.
وبينما أكد أن قدرات حماس لم تنته بعد، رغم الإنجازات في غزة، اعتبر أن معظم القدرة الصاروخية لحزب الله قد تم تدميرها، رغم أن الواقع الميداني يشير لعكس ذلك. وشدد نتنياهو على نية الاحتلال إحكام السيطرة الأمنية على القطاع وعلى محور صلاح الدين (فيلادلفيا) على الحدود مع مصر، وتحدث عن إعداد خطة لاستبدال حكم حماس وتعطيل قدرتها على توزيع المساعدات، في حين ركز في لبنان على إبعاد الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني، ولم يطرح قط فكرة السيطرة على جنوب لبنان. وقد ترتبط تلك التصريحات لنتنياهو فيما يتعلق بلبنان بمسودة المقترحات الأميركية الأخيرة، بينما تبدو أي مبادرات تتعلق بوقف إطلاق النار وصفقة تبادل في غزة بعيدة عن مخططات نتنياهو. فقد دعا نتنياهو سكان القطاع يوم الثلاثاء الماضي، أثناء تواجده في غزة، للمساعدة في تسليم المحتجزين مقابل مكافأة مالية وإخراجهم من غزة، الأمر الذي يعكس عدم نيته عقد صفقة مع حركة حماس، ماطل نتنياهو طوال العام الماضي لتعطيلها، كما يعني ذلك أيضاً استمرار تواصل العدوان وحرب الإبادة الدائرة حالياً على غزة. ويؤكد على ذلك المبادرة الأخيرة بتشغيل شركة أميركية لتوزيع المساعدات في غزة، والتي تذكرنا بمبادرة سابقة قبل أشهر، تمثلت بفكرة الرصيف البحري العائم، والذي وُضع لذات السبب. فشلت مبادرة الرصيف كما سيفشل تنفيذ فكرة تولي شركة أميركية توزيع المساعدات في غزة، لأنها ستحتاج لمساعدة من الغزيين، وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه تحت إدارة الاحتلال، وهو ذات السبب الذي أفشل مخطط الرصيف العائم من بين أسباب أخرى.
وتبدو مبادرة وقف الحرب في لبنان المطروحة أميركياً على بساط البحث حالياً قابلة للتحقق، وإن لم يتم بعد جَسر جميع ثغراتها. فالمبادرة تتحدث عن تطبيق القرار الأممي ١٧٠١، والذي وافق عليه البلدان من قبل. كما تتحدث المبادرة على حق الدفاع عن النفس لإسرائيل، والذي ارتبط بالسماح لإسرائيل بمهاجمة حزب الله في حال حدوث أي خرق للاتفاق من قبل الحزب. ويبدو أن ملاحظة لبنان في ذلك الشأن قد أخذت على محمل الجد، وبات هذا الحق متبادلاً في المسودة. وتعلق ذلك الحق المتبادل بمتابعة لجنة ثلاثية مكونة من الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة، بالإضافة للبنان وحكومة الاحتلال، ويبدو أيضاً أنه تم الأخذ بملاحظة لبنان المتعلقة بهذه اللجنة، حيث رفض لبنان وجود جهات أخرى فيها. كما تبدو فكرة نشر قوات للجيش اللبناني في جنوب الليطاني بدلاً من قوات حزب الله، بالإضافة للاحتفاظ بقوات اليونيفيل بنفس قدراتها وحدود عملها، هي ذات المعطيات التي نص عليها قرار ١٧٠١، والذي اعتبره لبنان مقبولاً للعمل في اطاره. ويقبل جيش الاحتلال في ظل تلك المبادرة بسحب جميع قواته، بعدما اشترطت مسودة الاتفاق مرور ٦٠ يوماً، والتي تعد كافية للتحقق من انسحاب قوات الحزب من جنوب لبنان، وانتشار القوات الرسمية اللبنانية بدلاً منها. وتبدو قضية الأسرى الذين تم أسرهم خلال المعارك الدائرة، التي يدعو لبنان لتحريرهم قضية غير عصية على الحل، في ظل عُرف متفق عليه بتحرير الأسرى في خضم الاتفاقيات. وتبدو المعضلة الوحيدة المتبقية تلك المتعلقة بالمطالبة الأميركية بمنع وصول السلاح لحزب الله، ليس فقط في الجنوب، وإنما أيضاً في لبنان، وليس فقط القادم من سورية، عبر الحدود بين البلدين، بل أيضاً عبر موانئ لبنان.
وتنشد حكومة الاحتلال حل الأزمة مع لبنان، ويتضح ذلك من تصريحات مسؤوليها، ومن تطورات الأحداث في الجبهة الداخلية الاسرائيلية، ولكن يبدو أن تلك الحكومة تعد للوصول لاتفاق مع لبنان كمقدمة وهدية لإدارة ترامب القادمة، التي ستستلم الحكم في غضون شهرين، وهي القادرة بالفعل على حل مشكلة تهريب السلاح لحزب الله من سورية. لم تُخفِ تصريحات نتنياهو امكانية الوصول لوقف الحرب مع لبنان، خصوصاً وأن ذلك يضمن عودة المستوطنين للشمال، كما وعدهم نتنياهو من قبل، والذي يعتبره نتنياهو قد حقق شكلاً من أشكال النصر، كما يحقق ذلك لنتنياهو إنجاز فصل الجبهتين اللبنانية والفلسطينية. وتعاني الجبهة الداخلية الاسرائيلية من انفجار جبهة لبنان، فبالاضافة للضربات الصاروخية المستمرة، والتي تضرب العمق، تزايدت أعداد القتلى بشكل كبير، من جراء التوغل الإسرائيلي وضربات المقاومة اللبنانية، ما يضيف عبئاً على خسائر جيش الاحتلال. ويرتبط تصاعد أعداد القتلى بمشكلة داخلية إسرائيلية تتعلق بالحاجة لتجنيد مزيدٍ من جنود الاحتياط، الذين يشكلون ثلث مجمل القتلى، في ظل محاولة الحكومة سَن قانون يُعفي المتدينين من التجنيد، وسط تصاعد أصوات المعارضة والاتهامات بالتمييز بين شريحتين سكانيتين. وقد يكون وقف الحرب مع لبنان مخرجاً لنتنياهو، يضمن استمرار تحالفه الحاكم، الذي لا يرفض ذلك الاتفاق كما يرفضه في غزة، ويخفض عبء اضطراب الجبهة الداخلية أمنياً التي توترت بشكل ملحوظ بعد انفجار الحرب مع لبنان، ويلغي الحاجة لتجنيد مزيدٍ من جنود الاحتياط، ويفتح طريقاً أقل تعقيداً أمام إقرار قانون إعفاء المتدينين من التجنيد.
وقد يستغل نتنياهو إبرام صفقة مع لبنان لإرضاء دونالد ترامب الرئيس الأميركي المنتخب، والذي لم يُخفِ نتنياهو دعمه له صراحة في الانتخابات الأخيرة، على حساب الإدارة الحالية. وعد ترامب ناخبيه من أصول لبنانية، خلال دعايته الانتخابية بتحقيق السلام مع لبنان، وله علاقات جيدة مع جهات نافذة لبنانية، ويناسب صهراً لبنانياً، وحفيده القادم من أصول لبنانية أيضاً. كما قد ينجح ترامب بعقد صفقة ما مع سورية تمنع وصول الأسلحة لحزب الله، ضمن الصفقة المطروحة حالياً على الطاولة لوقف الحرب مع لبنان، ويعتبر ضمان عدم وصول السلاح للحزب، أحد أعقد معضلاتها. إن ترامب الذي يتطلع لسحب قوات بلاده من الشرق الأوسط، بما فيها حوالى ١٠٠٠ جندي في سورية، قد يلجأ للاتفاق مع بشار الأسد، الذي أعاد سيطرته على ٧٠ في المائة من الأراضي السورية، ورجع حديثاً لحضن الجامعة العربية، وتنظر دول الاتحاد الأوروبي لتطبيع العلاقات معه. تعامل الأسد بنوع من الحياد مع حرب غزة، وانفصل ضمنياً عن محور إيران، ورفض استقبال قيادة حركة حماس في بلاده. وتحتاج الولايات المتحدة لعقد صفقة ما مع الحكومة السورية، في حال نفذت توجهاتها بالانسحاب من سورية، لضمان التنسيق مع القوى القائمة على الأرض، لضمان عدم تمدد «داعش» وحماية الأكراد الموالين للولايات المتحدة.
تحمل الإجابة على توجهات ترامب في المنطقة الكثير من الإجابات على قضايا عالقة ومعقدة في المنطقة، أولها الأزمة اللبنانية، التي يمكن أن تكون ادارة ترامب طرفاً فاعلاً في الحل، خصوصاً عبر الورقة السورية. ورغم أن الحرب في غزة ليست ضمن أولويات ترامب، لذلك فان إنهاء الحرب والسيطرة الأمنية على غزة لن تشكل نقطة خلاف بين حكومة الاحتلال وإدارته، إلا أن التساؤل يدور حول ضم الضفة، الذي لم يُخفِ الاحتلال نيّته تنفيذه في ظل ولاية ترامب الحالية. وتبنى ترامب مقاربة إسرائيل بضم الضفة في ولايته السابقة، من خلال صفقة القرن التي طرحها في حينه، واختار سفيراً لبلاده في تل أبيب يتبنى مقاربة الضم أيضاً، إلا أن ذلك قد يتعارض مع مساعيه وأهدافه الأخرى في المنطقة. كان من أهم انجازات ترامب في حقبته الماضية اتفاقيات التطبيع، خصوصاً تلك التي عقدها بين إسرائيل مع دولة الإمارات العربية ومملكة البحرين، ولم يُخفِ ترامب تطلعه لضم المملكة العربية السعودية لتلك الاتفاقيات، خصوصاً خلال ولايته الحالية، والتي قد تواجه صعوبة وتعقيداً في حال وافق على مسايرة إسرائيل وتحقيق ضم الضفة الغربية. إن تلك التطورات التي تتعلق بالضم والعلاقة مع السعودية ترتبط مباشرة بمستقبل صراع دول المنطقة مع إيران ضمن المنظور الذي رسمته الولايات المتحدة، والقائم على توطيد علاقة الدول العربية السنية مع إسرائيل لمواجهة التمدد الإيراني، ومجريات ضم إسرائيل للضفة، قد يقلب المعادلات التي تسعى الولايات المتحدة لإرسائها عبر السنوات الماضية.