من خلال العديد من المُعطيات، تشكلت لمخيم الأمعري رمزية استثنائية، لم يسع اليها المتواضعون سكان المخيم، وإنما هي التي سعت اليهم، فظلوا في حال التواصل الوجداني مع ريف وقرى ومخيمات شعهم.
الفلسطينيون الأمعريون، يرون مخيمهم واحداً من تسعة عشر في الضفة، كل مخيم منها، يشهد على تاريخ انتهاب الوطن، ويحتفظ بالذاكرة المترعة بوقائع معاناة سنوات التهجير الأولى، وما تخللها من حصار ومحاولات المخابرات، تكميم أفواه الناس وإشقاء حياتهم، قبل حرب 67. كذلك فإن الذاكرة، لم تضيّع فقرة من حكاية المعاناة بعد الإحتلال الذي تجاوز الآن نصف القرن، من الأكلاف الباهظة، على طريق المقاومة، والإنتفاضات.
بعد هذا كله، يواجه الناس اليوم، بلاءات ديكتاتور صغير فاسد، فاقد للبصيرة، لم يفلح في شيء، ويريد أن يتعدى على رمزية المخيم، بسبب تمسك أهله بكرامتهم وحقوقهم السياسية والإنسانية، وهو يعلم أن أهالي المخيم، لن يسمحوا لكائن من كان، أن يستأسد عليهم، والنيل من حقوقهم الأساسية، لا سيما عندما يكون بائساً وفاسداً وذا خيارات ضالة، أوصلته الى مآلاته الراهنة!
ما يجري الآن في المخيم، يمثل اعتداءً على سكانه بأيدي سلطة لم يفوضها أحد بأية مسؤوليات، بل إن القائمين عليها، يحتقرون الشرعية التي قامت على أساسها هذه السلطة، وهي شرعية النضال الوطني الضاري. فمثل هذه السلطة، حتى ولو مارست مسؤولياتها باحترام، كان يتوجب عليها أن تتحسس فقدان المشروعية وتستشعر نقص التفويض. لكنها للأسف، تعتدي على مخيم مكتظ، ظل سكانه يتعايشون على مر العقود، مع وضعية الحشر وسوء التهوية وبؤس الخدمات، في مساحة لا تستكمل الكيلو مترٍ الواحد المربع من الأرض!
فما الذي يريده عباس من خلال هذه الفتنة، علماً بأن شخصيات المخيم، الإجتماعية والسياسية، تحظى بتأييد عارم ومشهود من أهل المخيم، بينما هو نفسه يراه الفلسطينيون كابوساً يكتم أنفاسهم، ويجلب لهم سخرية العالم!
كان يتوجب على مثل هذا الديكتاتور، أن يتودد الى الناس لكي يداري عوراته، لا أن يدفع أبناء الشعب، من منتسبي قوة الأمن الفلسطينية، الى الهجوم على إخوتهم، لسلب حقهم في التعبير عن الرأي.
واضح أن عباس، انزعج كثيراً من تلاحم سكان المخيم جميعاً مع النخبة السياسية والإجتماعية فيه، بينما هو لم يفلح في صنع التلاحم بين أفراد حاشيته أو لجنته المركزية، خوفاً من اشتداد ساعدها فتتجرأ على انتقاده. إن هذا الرجل الذي ينام على وسادة الذعر، يحسب كل صيحة عليه. فكلما نطق إسرائيلي أو أمريكي، بحرف من الدسيسة، ولوّح له بشبح دحلان، يفقد توازنه، ويصدق أن دحلان قد فقد عقله، لكي يسعى الى الإستحواذ على تل الخراب الذي أوقعه في النظام السياسي وفي المجتمع وفي القضية نفسها. فالتحدي بعد عباس، يتطلب مسؤولية تضامنية، وتكليفاً شعبياً لشريحة سياسية منضبطة دستورياً، تتحمل مسؤولية خطيرة لا يضطلع بها شخص فرد. إن وصفة الشخص الفرد، هي وصفة الخراب والإستبداد والتدمير. وللأسف، لا تزال بوصلة عقل عباس، تعتمد هذه الوصفة القاصرة التي لم تعد تلائم الشعب الفلسطيني. لكنه لا يزال يرى في السيرورة أن شخصاً ـ أو بعيراً ـ يقوم وآخر يقعد، وليضرب الناس رؤوسهم في الحائط. فهذه هي منهجيته هو ومعظم حاشيته. وكلما أحس بالضآلة، تراه يأمر بتدوير اسطوانة دحلان، لكي يستمع الناس من جديد الى معزوفة الهارب والمفصول ومُشغّل الأعاصير، علماً بأن كل ما يطمح اليه أهالي المخيم، يتمثل في العودة الى المسار الديموقراطي، والتمكين للإرادة الشعبية، لكي تنطلق عملية الإصلاح المرتجاة، التي هي شرط أساس ولا محيد عنه، لأن يتمكن النظام الوطني، من استيعاب حيوية الشعب الفلسطيني، الذي لم يمت ولن يموت.
الفلسطينيون الأمعريون أصلب عوداً بكثير، مما يعتقد عباس في أسوأ كوابيسه. فالشباب الناضجون منهم، تربوا على أيدي آباء وأمهات، عاشوا ثماني سنين في خيام من قماش، ثم مساكن اسمنتية متناهية في الضيق، يعانون برودة الشتاء وحرارة الصيف. والأجيال الجديدة الأصغر سناً من سكان المخيم، تعلمت وتريضت وأبدعت، بلا مساحات متوفرة للحركة، وحققت نتائج لم يحققها المستمتعون بالمساحات الواسعة. ومع اليقظة الذهنية والإعتزاز بالكرامة، لم يستطع السكير الماجن، إبن الديكتاتور الصغير، تنصيب نفسه راعياً للحركة الإجتماعية الرياضية في "الأمعري". وبدل أن يفهم الديكتاتور الصغير البائس مغزى الدرس، ويتأمل سلوك الإبنين ويستشعر واجباته، فعل العكس واستشعر البغضاء حيال "الأمعري" والريف الفلسطيني والمخيمات. لذا، لن يعثر موالوه على صورة واحدة له، وهو يزور قرية أو مخيم أو بيت عزاء!
على الرغم من ذلك كله، ينطلق عباس من وسط كل تلك الخيبات، لكي يستأسد على الأمعري، وكأن هجومه على المخيم، من شانه تحسين موقفه السياسي لمجرد أنه يعتقل الكوادر ويهجم تحت عنوان مقاومة الخطر الدحلاني. وسرعان ما يأتيه الجواب سريعاً من خلال موقف حماس السلبي من توسلاته. ومع هذه الخيبة، اعتبر أن أعداءه هم ناصحوه الذين يطالبون باستعادة الحياة الدستورية. يهحم على "الأمعري" بكل ما يمثله مع سائر المخيمات، من رمزية تاريخية، معبرة عن حقوق ومظلومية الشعب الفلسطيني وعذاباته!