تحاول إسرائيل منذ حدوث هجوم السابع من أكتوبر تصويره وتهويله وكأنه أشبه بأحداث ١١ سبتمبر التي هزت الولايات المتحدة والعالم منذ أكثر من عقدين، لتبرير ردّات فعلها العنيفة. يأتي ذلك على الرغم من عدم وجود أي تشابه بين الحادثتين. جاء هجوم ٧ أكتوبر على خلفية احتلال مديد للأراضي الفلسطينية وحصار صارم على قطاع غزة وسياسات احتلالية قاهرة، وفي سياق رفض هذا الاحتلال، والرغبة من التحرر من آثامه. في حين جاء هجوم ١١ سبتمبر مباغتاً ومفاجئاً، ومخططاً له من قبل جهات أجنبية، من خارج الولايات المتحدة، فالأسباب وطبيعة الفاعلين وتفاصيل الهجوم كلها مختلفة. لكن ما تحاول أن توصله إسرائيل من خلال هذا التشبيه المبالغ به هو التبعات، أي تشبيه تبعات ٧ أكتوبر بتبعات هجوم ١١ سبتمبر، الذي بدأت بعده الولايات المتحدة سياسة خارجية جديدة تجاه الشرق الأوسط تقوم على استخدام سياسة العصا وشن الحروب، وسعت من خلال ذلك لتغيير واقع المنطقة بالقضاء على قوى فيها وتغييرها وفرض تحالفات جديدة.
لا بد من الإقرار بأن واقعاً جديداً بدأ يحاك ضد الفلسطينيين بعد ٧ أكتوبر، وعليهم أن يستعدوا له. ولعل هناك أربعة محاور مهمة يواجه الفلسطينيون في إطارها تبدلات يعمل الاحتلال على فرضها داخل الأراضي الفلسطينية. وقد يرتبط أول تلك التبدلات بسياسة الاحتلال تجاه قطاع غزة، فالتوجه يميل نحو عدم السماح بعودة القطاع لسابق عهده. ويأتي ثاني تلك التبدلات في الضفة الغربية، فما يفرضه الاحتلال اليوم، والذي يعتبر سياسة تصعيدية ضمن مستويات متقدمة، لن يكون استثنائياً، وإنما هو مجرد البداية. ويتعلق ثالثها بالأونروا والمخيمات في الأراضي المحتلة، والذي يعكس الموقف الحقيقي والمعلن لإسرائيل من حل الدولتين وقضايا الحل النهائي، وعلى رأسها قضية الاستيطان واللاجئين. في حين يركز الرابع على مساعي تقويض القيادة الفلسطينية، وهو توجه يرتبط بما سبقه، فكل التوجهات السابقة تتحقق بشكل أكثر سلاسة في ظل تجاهل إسرائيل للقيادة الفلسطينية.
ولعله ليس مستغرباً أن يأتي كل ذلك التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل حكومة يمينية متطرفة، بقيادة بنيامين نتنياهو، والتي لم تخفِ نواياها وتوجهاتها ضد الفلسطينيين منذ اليوم الأول لها في الحكم. ويساعد وجود الرئيس دونالد ترامب في سدة الحكم إسرائيل لتحقيق تطلعاتها وأهدافها. ولم يعد خفياً توجه ترامب واستشراف موقفه تجاه الفلسطينيين من خلال تصريحاته وسياساته، فدعمه لإسرائيل بلا حدود، ويفسر انتظار نتنياهو وحكومته لسنوات حكمه. كان من بين أول القرارات التي اتخذها ترامب، في موقف موجه ضد الفلسطينيين، وقف العقوبات ضد المستوطنين الذين يعتدون على الفلسطينيين، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية، لأنها اتخذت إجراءات ضد قادة إسرائيل، وحجب التمويل عن الفلسطينيين والأونروا.
وبدأت إدارة ترامب ولايتها الحالية بالسماح بإطلاق سراح قنابل تزن 2000 رطل لإسرائيل في 25 كانون الثاني 2025، كانت محتجزة من قبل الإدارة السابقة. وقامت بعد ذلك بتدابير إضافية، كإخطار الكونغرس في 7 شباط بخطط لبيع أسلحة بقيمة ما يقرب من 7.4 مليار دولار لإسرائيل، والموافقة في 28 شباط الماضي على بيع قنابل ورؤوس حربية خارقة لها بقيمة حوالى 2.04 مليار دولار، وبيع ذخائر وأجهزة توجيه بقيمة 675.7 مليون دولار. كما عمل ترامب على استثناء متطلب مراجعة الكونغرس على مراقبة تصدير الأسلحة، والذي يعمل بموجب قانون. كما استخدام ترامب "سلطات الطوارئ" في مطلع الشهر الجاري لتسريع وصول ما يقرب من 4 مليارات دولار من المساعدات العسكرية لإسرائيل. واتخذ إجراءات تصعيدية ضد من يقف مع الفلسطينيين وقضيتهم في الولايات المتحدة. يأتي ذلك على الرغم من مواقف ترامب وإداراته على سبيل المثال من حليف الولايات المتحدة فولوديمير زيلينسكي، حيث أوقف الدعم عنه، وأجبره على الدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب، وتقديم تنازلات، لا يقبل بها حلفاؤه الأوروبيون.
لا يعطي ترامب اعتباراً لحلفائه التقليديين، باستثناء إسرائيل، فهو يترك حليفه زيلينسكي وحيداً، بعد أن تقاطعت أهدافه مع أهداف الولايات المتحدة في حربه ضد روسيا، وتحصن بدعم الولايات المتحدة طوال الأشهر السابقة. ويضرب ترامب في عرض الحائط بعلاقته مع حلفائه الأوروبيين، الأمر الذي أوجب عليهم إجراء مرجعات عميقة في معادلة الردع العسكري والنووي وفي إطار حلف الناتو. كما قرر ترامب فرض قيود تجارية وتعريفات جمركية على حلفاء الولايات المتحدة وأندادها، في مخالفة صارخة لتراث تبنته الولايات المتحدة بعد نهايات الحرب الباردة. ويبدو أن الاعتبار الوحيدة التي يتمسك به ترامب في سياسات الولايات المتحدة الخارجية هو فقط ما يتعلق بإسرائيل.
وكان موقف ترامب من غزة صادماً، فقد عكست تصريحاته حول مصادرة غزة من أهلها وتهجيرها وعدم وضع أدنى اعتبار للقضية الفلسطينية وللفلسطينيين تحولاً مهماً في السياسة الأميركية. ويتساوق موقفه هذا مع ما كشف عنه في ولايته الأولى، عندما تجاهل الفلسطينيين ومطالبهم العادلة، بنقل سفارة بلاده للقدس، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن وقطع المساعدات عن الفلسطينيين وطرح عرضاً للحل عرف بـ"صفقة القرن" ينسجم مع رؤية نتنياهو ودولته. وقد يكون منسقاً معه عبر حلفائه من اليهود في البيت الأبيض.
من خلال المعطيات السابقة، على الفلسطينيين فهم مواقف الولايات المتحدة تجاه قضية الهدنة وتبادل الأسرى في غزة، والتي لا تخرج عن توجهات وأهداف نتنياهو. ورغم توجه إدارة ترامب للتفاوض مع حركة "حماس" بعيداً عن إسرائيل، للإفراج عن الأسير الإسرائيلي الأميركي، وجثث أربعة آخرين، إلا أن ذلك لا يخرج عن الحدود التي تضعها إسرائيل، ولن تختلف أهداف الولايات المتحدة عن أهدافها النهائية. وبالإمكان ملاحظة أن جميع ما وضع أمام حركة "حماس"، سواء من قبل إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة، يرتكز على إخراج المحتجزين المتبقين في غزة، وإنهاء حكم وقدرة "حماس" في غزة، وربط ذلك بالوقف المستدام للحرب، على الرغم من عدم التأكد، حتى في حال حدوث ذلك، من واقع ما بعد الحرب، الذي ستحدده إسرائيل.
بعد ٧ أكتوبر، ساعد الصمت الدولي على إقدام إسرائيل على ارتكاب جرائم بحق المدنيين في غزة، والتي تستمر في ارتكابها حتى اللحظة، وتجرؤها على التصريح بمخططاتها لتهجير الغزيين عن وطنهم. كما أعلنت الحرب ضد العزل في الضفة، فاجتاحت المدن الفلسطينية، خصوصاً في شمال الضفة، وأقدمت على تهجير وترحيل السكان، في إجراءات غير مألوفة من قبل الاحتلال. إلا أن ذلك يطرح علامة سؤال كبيرة حول ما يقف وراء تلك الإجراءات، ودوافعها. هل تريد إسرائيل فرض الترحيل والتهجير على الفلسطينيين، وجعل ذلك وسيلة متداولة للتعامل معهم، حتى في الضفة الغربية؟ وهل يرتبط ذلك بما تعلن عنه إسرائيل حول نيتها ضمّ أجزاء من الضفة الغربية؟ وهل ترتبط توجهاتها بحل الأونروا ومنع وجودها في الأراضي المحتلة، بما تحمله تلك الوكالة من اعتبار سياسي وقانوني لحل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، بإبطال قضايا الحل النهائي بشكل تام، كمقدمة لفرض حل للقضية الفلسطينية بطريقتها الخاصة، في عهد ترامب؟
يقتضي إرث ترامب أخذ الحيطة والحذر والتدقيق في الفعل والقول من قبل الفلسطينيين، والثبات على الثوابت والحقوق، والتصدي بحكمة ووعي للمخططات التي تحاك ضدهم، كما يستوجب ذلك تحركاً واسع النطاق على المستويات الفلسطينية والعربية والدولية، والتأكيد أن السلام والأمن في المنطقة بأسرها لن يتحقق من دون نيل الفلسطينيين حقوقهم المشروعة في تقرير المصير فوق أرضهم وعودتهم.