عندما تتوقف الحرب سأتلفت نحو اليمين ونحو اليسار، سأتفقد روحي، أولاً هل بقيت كاملة أم أنها انكسرت مع ما تكسر من شظايا الذكريات... سأتفقد وجوه من حولي ومن منهم غاب ولم يحضر... سأسأل الواقفين: أين محمود أين طه، وأين محمد وأين شريف وأين يوسف وأين زياد سليمان وأين محمد وأين نعيم وأين... وأين... وأين جميع من عرفت وتعلق القلب بهم، سأتفقد هاتفي لأسمع ضحكاتهم لأقول: لقد نجوتم .... في بداية الحرب قلت لهم «أرجوكم ألا تموتوا» ولكنهم خذلوني ولم ينجوا وخانوا القلب الذي أصيب بعطب ما تبقى من العمر.
ستستمر الحياة كسيحة وتمشي زاحفة كمن فقدت أطرافها أو بحاجة إلى كرسي متحرك، يحملها من زقاق مظلم إلى أزقة فقدت رائحتها في لحظة أشد سواداً مما تخيله الفلسطيني في أسوأ كوابيسه. ما الذي فعلناه بأنفسنا كي نجني كل هذا الخراب وكي نفقد كل هؤلاء دون جدوى، عائدين إلى الوراء نمشي في الشوارع باحثين عنا وعن شيء كان يشبهنا في ملامح غادرت أجسادها في لحظة عبث، وظلت مطبوعة في ذاكرة لم يبق فيها متسع للحزن أكثر، فقد امتلأت بجثث الذكريات.
إذا ما أن انتهت مراوغات نتنياهو وذهبنا لتنفيذ اتفاق سيعود الناس ليشهدوا ما حل بهم. فلا بيوت ولا شوارع ولا شيء سوى الحسرة على ما كان. لن يجدوا سوى حنين لشيء يعرفونه تماماً، وسيشعرون بلسعة حادة في القلب، سيبحث أحدهم في غبار البيت المهدوم عن ضحكة عابرة لحبيب كان يملأ العالم بضجيج الفرح، عن بصمة على حجر معجون بالدم، عن عودة لحظة دمرتها الحرب مرة وللأبد. سيحاول الناس ترميم المكسور في داخلهم... سيبكون على مهل حتى لا يسمع الأعداء ما فيهم من وجع... سينفجرون في البكاء بين أطلال العمر.
لا شيء يسعف ذلك الحنين المعلق بين شظايا القبور، كيف يواسي الناس بعضهم؟ ماذا سيقول أب لزوجة فقدت أبناءها؟ ماذا سيقول مسؤول استجمع كل بلاغته ليُقنع الناس بجدارة الموت الجماعي من أجل اللاشيء؟ أغبط قدراته على المواجهة واختراع اللغة، وأغبط قدرته الخارقة على الفصل بين منطق الرواية وواقع الرواية... كم عرايا نحن.
تصيبني الدهشة منا نحن أبناء غزة وكيف نفهم الحرب والسياسة، مندفعون بلا حدود، مستعجلون لأن ساعة التوقيت لدينا معطلة، وعقرب الزمن مصاب بسكتة حتى لو متنا جميعاً، منفعلون، حالمون، واهمون، عصبيون، طافحون بالإرادة مبتدئون في الحساب، ولا نتعلم من تاريخنا الطويل كأن فائض الدم هو إثبات جدارتنا بالحياة لنجد الموت في انتظارنا، ونغطي بدائيتنا باللغة والشعار وبالحلم ...وبالوهم حتى.
إذا ما انتهى الجدال في إسرائيل على دمنا ومر الاتفاق بعد أم المغامرات سنكون أمام أم الحقائق، حقائق تقف على رأسها حقيقتنا العارية في كفاءة إدارة السياسة والصراعات ومستوى الأداء وإدارة الشعوب كأمانة في أعناق من تحملوا مسؤوليتها وأغدقوا ما يكفي من الوعود بالحياة وبالنصر، كما جاء في قسَم مكتوب يؤدونه في لحظة عابرة بأن يحموا شعبهم ومراجعة الحاضر والتاريخ وما عقدناه من مؤتمرات، وكيف تنافسنا في اللغة وفي الشعار، وكيف استدعينا الوهم ليكون مرشدنا الأوحد نحو الحقيقة لنصحو على كل هذا.
يكتب صديقي الذي تساقطت على بيته الصواريخ «لقد نجونا من الموت فهل سننجو من الحياة؟ وهو السؤال الذي سيرافق الغزيين الذين خرجوا إلى شيء لا يشبههم، وعلى شيء لا يعرفونه، وإلى ما يعتقد الآخرون من خارج غزة الذين يتدثرون بأُسرهم وفي بيوتهم أنه حياة، لكن رمل غزة وشوارعها تتمتم كلاماً غير مفهوم، فمن أصيبت روحه برجة عنيفة أقعدتها حد الشلل يصاب بدهشة شعور الآخرين بعد كل هذا، وسيصاب بالصمت طويلاً أملاً في موت ينقذه من الحياة التي يترنح بين عذاباتها.
«فشل تهجير الشعب من غزة « هذا كان إنجازنا المتحقق قبل مغامراتنا، يبدو الأمر أشبه بنكتة، هكذا تستدعي الشعوب الفقيرة وقياداتها الأكثر فقراً ممكنات اللغة واختراع الرواية وتصديقها وترويجها للتغلب على فداحة مأساتها دون أن تعترف للحظة بخطأ حساباتها. فالعقل العربي كعادته في الفشل معصوم من الخطأ، فما بالنا حين يرتدي عباءته الدينية؟ من ينتظر اعترافاً عليه أن ينتظر طويلاً، لأنه في نظر البعض أن تدمر مدينة وأن تستدعي مجرماً فاشياً يملك كل ممكنات الإبادة، ويقف العالم خلفه ويقتل ستين ألفاً لتطلق سراح ألف هي معادلة عادلة، لا يعني براءة اسرائيل الأبدية من دمنا ولكن للعقل السياسي حساباته. لكن العقل البدائي لا علاقة له بالحساب دوماً، والكثير من أمثلة فشل التهجير ستحتل الرواية ترافقها أساطيل الإعلام لتقنعنا بجدارة موتنا.
سيقتلنا الحنين حين ننفث الغبار عن الروح وننظر إليها بكامل عريها، وحين نزيل الركام عن بقايانا المحطمة، وعندما نمسك هاتفنا لنتفقد من بقي من تلك الأسماء التي شكلت مركز توازننا، ونعرف أن من تبقى هم أقل كثيراً ممن رحل. سننزوي بما نملك من بقايا دموع ندلقها لنجفف ما تبقى من حزننا الطري الذي أصبح رفيق دربنا وظِل الغزيين ... سأسمع رنين هواتفهم ولكن لا مجيب، ربما سأسمع أسطوانة تقول «الهاتف الذي طلبت رحل صاحبه للأبد».