دون مقدمات طويلة ـ إذ يمكن تأجيل الحديث عنها إلى مقالات قادمة ـ فإن هبّة قضاء بئر السبع مرشّحة لإحداث تطورات دراماتيكية كبيرة لأسباب كثيرة، لعل من أهمها على الإطلاق هو أن هذه الهبّة ليست سوى النسخة الجنوبية عن نسخة الشيخ جرّاح في الشهر الخامس من العام الماضي.
نضع كلمة «النقب» بين أقواس، ونتحدث عن قضاء بئر السبع، أو عن الجنوب الفلسطيني، لأن إسرائيل، وقبلها الانتداب البريطاني كانوا يستخدمون هذا اللفظ بهدف الإيحاء بأن الحديث يتم عن منطقة صحراوية مقفرة، وذلك لتغييب ما قامت به إسرائيل من اقتلاع وتهجير لعشرات الآلاف من سكان هذا القضاء في محاولة إخفاء الجرائم التي ارتكبت بحقهم، والجرائم التي سترتكبها الآن ومستقبلاً.
أنصح بهذا الصدد بالرجوع إلى دراسة أرسلها لي الدكتور الصديق وليد سالم ـ جامعة القدس، والتي فصّل فيها الباحث المخططات الصهيونية لتهويد النقب منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وهي بعنوان (قراءة في الموجة الثانية من الخلاص/ التخليص الصهيوني للأرض/ الاستيلاء على الأراضي في قضاء بئر السبع) للأستاذ أحمد أمارة، وهي دراسة قيّمة للغاية من حيث المنهج وثراء المراجع والمصادر والتوثيق، ومن حيث دقة الربط بين المعطيات واستهدافاتها السياسية والاستراتيجية، أيضاً.
الاستهداف الصهيوني لقضاء بئر السبع ليس فقط يعتبر من أقدم الاستهدافات، وإنما اعتبرته معظم القيادات الصهيونية، وخصوصاً «بن غوريون» استهدافاً له الطابع «القومي الشامل»، بمعنى أن انعكاساته وأبعاده أكبر بكثير من الحيّز الجغرافي.
ويهدف المشروع الصهيوني، القديم والجديد (وهما متّصلان ومتواصلان) إلى حشر الفلسطينيين في «تجمعات» يمكن السيطرة عليها بحيث لا تصل المساحة المتاحة لهم في النهاية إلى أكثر من 1% من كامل مساحة قضاء بئر السبع والذي تبلغ مساحته حوالى 52% من فلسطين التاريخية حسب الدكتور منصور النصاصرة في كتابه (بدو النقب وبئر السبع، مئة عام من السياسة والنضال 2019) ومن أجل القراءة السياسية الدقيقة للمعطيات القائمة في «النقب» علينا ـ على ما يبدو ـ رؤية أن لا حلّ أمام إسرائيل لتحقيق هذا «الهدف» إلا بالاقتلاع والتهجير والترحيل، وهي مواصفات ثلاث تنطبق بالكامل على المخطط الصهيوني «للنقب».
لا أعرف واقعة في كل التاريخ القديم والوسيط والمعاصر أن قامت قوة استعمارية بهدم تجمع سكاني لأكثر من 200 مرة متتالية (العراقيب)، ولم أسمع بمشروع «تشجير» يستحيل أو يصعب قيامه إلا بالتهجير والترحيل والاقتلاع، وإلا بحشر سكان المنطقة الأصلانيين في «معسكرات» مسيطر عليها، إلا ما كان قد فعله الجنرال الفاشي غراتسياني أثناء محاولة قمع ثورة الشعب الليبي ضد الاستعمار الإيطالي لبلادهم، وذلك عندما وضع عشرات الآلاف منهم داخل الأسلاك الشائكة.
إسرائيل ترى أن بالإمكان تمرير المخطط الذي أعدته «للنقب» وشرعت به منذ العام 2005، وتم إقراره في العام 2013، والآن وبعد أن أقرت الشروع بمشاريع مباشرة عبر بوابة «التنمية والسياحة والمشاريع الصناعية التكنولوجية» والتشجير، فهي لم تتعلم كثيراً من هبّة الشيخ جرّاح، وتراهن على «مقايضات» هنا وهناك ستدفع ثمن هذه الحماقة الجديدة.
وكما وحّدت هبّة الشيخ جرّاح شعبنا في وجه إسرائيل فإن هبّة النقب ستعيدنا إلى نفس الدائرة، لأن ما جرى هناك وما يجري هنا اليوم ليس سوى مخططات معدة لسياسات الاقتلاع، والهبّات الوطنية في وجه هذه المخططات ليست سوى سلسلة متواصلة من مقاومة الشعب الفلسطيني لهذه المخططات، والتي ستتوج حتماً في مقاومة لا هوادة فيها في كل الأرض الفلسطينية لتعيد رسم الخرائط والحدود في مرحلة تبدو مصيرية، ويبدو فيها الشعب الفلسطيني مستعداً لإعادة توحيد الشعب والأرض والقضية، بعد أن وصلت المخططات الصهيونية إلى مرحلة جديدة دخلت بموجبها لتحويل الاقتلاع والترحيل والتهجير إلى سياسة على جدول الأعمال المباشر، وليس الشيخ جرّاح و»النقب» إلا بروفات صهيونية للقادم.
من يراقب الإرباك والتردد الذي يبدو على «محيّا» رئيس حكومة «الخلطة السحرية» في إسرائيل يستطيع أن يدرك المأزق الذي تمر به هذه الحكومة، وذلك لأنه يدرك خطر سقوطها أكثر من أي شخص آخر. فها هي تبدأ الحراكات الشعبية المنظمة للوقوف إلى جانب الأهل في «النقب»، وها هو اليمين بكل متطرفيه يعد العدة لتحويل معركة النقب إلى معركة مصيرية وحاسمة، من داخل الحكومة ومن قبل الليكود أيضاً.
فهل يستطيع منصور عباس الذي حصل على أكثر من 40% من أصواته من فلسطينيي «النقب» أن يتخلى عنهم الآن و»يبارك» لليمين الصهيوني موجات وحملات القمع ضدهم؟
وحتى لو فعل، وفقد عقله بالكامل، بعد أن كان قد شرعن لهم «يهودية الدولة» فهل سيضمن أن تظل قائمته موحدة؟ وعندما يفقد غالبية مناصريه من الجنوب كما فقدها أو يفقدها في كل المناطق الأخرى، فهل يستطيع البقاء في مربّع «بقاء» هذه الحكومة بأي ثمن؟
لذا فإن أولى النتائج التي ستترتب على «إصرار» اليمين الصهيوني على تنفيذ هذه الخطط ضد الأهل في جنوب فلسطين هو سقوط هذه الحكومة، ولا عزاء للسيد لابيد، لأن منصور عباس نفسه لن يعود مهماً لأحد، وسيكون وضعه بالضبط وبالتطابق التام كما هو وضع «مصيّفة الغور»، كما يقال بالأمثال الشعبية الفلسطينية الدارجة والرائجة، وذلك لأن نتنياهو إذا عقد الصفقة مع النيابة العامة بالشروط والمحددات التي يتم الحديث عنها في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية فإن اليمين الإسرائيلي من كل أنواع اليمين سيعاودون التوحد أو التنافس من جديد وبقوة، وحينها فإن منصور عباس و«العمل» و«ربما ميرتس» سيكونون هم أيضاً ضحايا لليمين الاستيطاني في إسرائيل.
رويداً رويداً كل القوى السياسية في إسرائيل ستجد نفسها أمام حقائق راسخة وشامخة، وهي حقائق يمثلها الشعب الفلسطيني في بقائه وصموده وإرادته الوطنية.
هذه الحقائق هي أزمة إسرائيل الوجودية الوحيدة والفريدة. ومهما تغافلت القوى السياسية، وتعامت، أو تظاهرت بالخفة أو الاستخفاف فإن الحقائق عنيدة كما تقول الحكمة البشرية.
اليمين الاستعماري (الاستيطاني)، الاقتلاعي، والإقصائي الإحلالي والعنصري يجرّ المجتمع والدولة في إسرائيل كل يوم إلى مصاف العنصرية كما يقول لابيد نفسه، والاختيار بين هذا التوهان وبين الاعتراف بالحقائق العنيدة هو اختيار يتحول يوماً بعد يوم إلى اختيار إجباري.
لدى إسرائيل بعض الوقت للمناورة، لكن هامش المناورة يضيق يوماً بعد يوم، لأن الشعب الفلسطيني بما يبديه من إرادة وطنية، ومن روح التحدي والمقاومة، ومن الصمود الأسطوري ضد المخططات الإسرائيلية يضيق عليها الخناق.
هناك مسافة تفصلنا عن وحدة الشعب الفلسطيني وتوحّد كل قواه وأدواته وطاقاته في معركة وطنية شاملة وليس فقط صموده وبقاءه، وحينها سنرى كيف سيتحول الاختيار إلى مهمة صعبة، بل وغاية في الصعوبة على الجزء الأكبر من القوى السياسية في إسرائيل، بل وعلى القوى السياسية الفلسطينية نفسها، وهنا لنا عودة.