يجب أن نعترف أن مواجهتنا للموجة الثانية من جائحة «كورونا» قد شابتها حتى الآن ثغرات ليست بسيطة، وهي ليست من النوع الذي يتعلق بضعف الإمكانيات، أو نقص التمويل ـ على أهميته ـ ولا حتى من النوع الإداري واللوجستي أو ما شاكل.
ويجب أن نعترف أن أولى هذه الثغرات وأكبرها أننا قد صدقنا بأننا قد نجحنا، وأننا قد بتنا نسيطر على الفيروس سيطرةً تامةً ومُحكمة.
هذه الثغرة أدّت من بين ما أدّت إليه إلى الكثير من مظاهر التراخي ـ ليس في تعليمات الحكومة ـ وإنما في ممارسة الضبط والمراقبة والمتابعة والردع.
التراخي بُعَيْدَ عطلة العيد مباشرةً نقل حالات الإصابة من صفر حالة، أو عدة حالات في اليوم الواحد إلى عدة عشرات، ثم إلى عدة مئات والحبل على الجرّار.
قلنا في عدة مناسبات، وعلى مدار عدة مقالات من على صفحات «الأيام» إن المناشدات لا تكفي، وإنه من دون تشدد صارم، ومن دون أدوات ردعية كافية، والركون إلى «وعي» المواطنين سيؤدي إلى تبديد كل الجهود الناجحة التي بُذلت في الموجة الأولى، والنجاحات الفعلية التي أنجزناها في ذلك الوقت.
كان واضحاً لكل ذي عقلٍ وبصيرة أن فتح البلد قبل توفير إرادة فرض الضبط، وقبل توفير بعض مقوّمات الحياة بحدودها الدنيا، وقبل التوافق والتنسيق التام مع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والأهلية، وقبل إيجاد الأدوات والأجسام التي يجب أن تتعامل مع أيّة انتشارات مباغتة وكبيرة، وخصوصاً في منطقة (ج)، وفي ظل إنهاء كل علاقات التنسيق مع الاحتلال، وخصوصاً التنسيق المدني.. كان واضحاً أنه من دون كل ذلك فإن إمكانية أن ننتقل من حالات فردية معزولة إلى انتشارات جماعية هي إمكانية ليست محتملة فقط، وإنما مرجّحة بل ومحتومة في الواقع.
أشك أن المخططين لدينا قد حسبوا جيداً احتمالات ما بعد الفتح التدريجي للحركة والاقتصاد، والذي تحول في الواقع إلى فتح كامل ومن دون قيود تذكر.
وأشك، أيضاً، أن هؤلاء المخططين قد أخذوا بالاعتبار معنى وتبعات عدم دفع الراتب أو تأخيره على الناس في ظل أزمة اقتصادية مستدامة تفاقمت بصورة عميقة جرّاء الإغلاق التام أو الجزئي على مدى عدة شهور متتالية.
وأشكّ كثيراً أن الحسابات الصحية كانت دقيقة، إذ لم يُصدّق أحد أننا يمكن أن نصل إلى الإصابات بالعشرات والمئات، وكما لا نُصدّق الآن أن الإصابات يمكن أن تصل إلى الآلاف، بالرغم من كل التحذيرات والمناشدات التي كانت تقوم بها وزارة الصحة الفلسطينية، وتحذّر منها الحكومة.
لكن هذا كله شيء وما بتنا نشهد فصوله في الأيام الأخيرة شيء آخر.
إذ كيف لنا أن نفهم أو نتفهّم التضارب في التعليمات والقرارات وتنفيذها بين الحكومة والمحافظين، وما هي مبررات هذه الإرباكات الخطيرة؟
ثم كيف لنا أن نفسّر المواقف المتضاربة والمتناقضة بين توجهات الحكومة وبين مدى انضباط والتزام الغرف التجارية، بل وكيف لنا أن نفسّر «انحيازات» بعض المحافظات لآراء ورؤية الغرف التجارية على حساب وحدة القرار الحكومي وإلزاميته؟!
عندما تصل الأمور إلى هذه الدرجة من الإرباك، وإلى هذا القدر من التردد والتخبط فإن الأمور لا تعود معتادة، ولا يمكن قبول التفسيرات الواهية لأسبابها ونتائجها.
وإليكم بالذي أعتقده في وصف حالتنا اليوم:
أولاً: هناك من يعمل ليل نهار، جهاراً وخِفيةً، ولدوافع سياسية وأيديولوجية، خاصة من أجل إفشال الحكومة، والذي سيعني فشلاً جماعياً لفلسطين في هذه المرحلة المصيرية الخطيرة.
إنهم يخططون بوعي ومعرفة، وليس لديهم أي وازع أخلاقي وإنساني أو ديني أو وطني، طالما أن فلسطين ستكون في صورة أو هيئة العاجز والفاشل والضعيف الذي يسهل الانقضاض عليه وإخضاعه في الوقت المناسب.
ثانياً: هؤلاء ليسوا محصورين في قوى سياسية، دينية أو اجتماعية، لأن مصالح الإفشال هي قواسم مشتركة بين قوى سياسية رجعية، وبين مراكز نفوذ هنا وهناك، وبين مصالح اقتصادية معينة لشرائح بعينها.
ثالثاً: هناك قوى سياسية ليست رجعية وليست من خارج الاطار الوطني تتعامل مع مشكلات وأزمات المجتمع، ليس من موقع المسؤولية والإسهام بالتصدي لها، وإنما من موقع المنافسات السياسية والحزبية الضيقة، وهي بالتالي في سوادها الأعظم تتصرف كالضيف على الحالة الوطنية والمجتمعية.
الذي يتصرف مع أزمات مجتمعه بحياء وخجل ووجل، ولا يمدّ يده إلاّ إذا أجبر أو أُحرج، أو لرفع العتب ومداراة الأحوال لا يمكن أن يكون شريكاً حقيقياً في معركة صمود الشعب الفلسطيني.
رابعاً: لا يجوز لأي أحد مهما كان، وكائناً من كان في لحظة أزمة من نوع الأزمة القائمة أن يعرّض حياة الفلسطيني لخطر الإصابة أو الموت تحت أي مبرّر، ولأيّ سبب، وبالتالي فإن الغالبية الساحقة من المواطنين يستشيطون غضباً جرّاء حالة الإرباك، وحالة التردد، وحالة الصراع على النفوذ والمصالح.
الأغلبية تلتزم بالتعليمات والأقلية للأسف قادرة على تدمير الجميع.
إذا لم يتم تدارك كل هذه الثغرات بأسرع وقت ممكن، وبأعلى درجة من الحزم، وبأعلى درجات المسؤولية، وفي إطار تخطيطي وتنفيذي منسّق موحّد الإرادة والقرار، فإن اختراق المجتمع الفلسطيني سيصبح سهلاً والمشروع الإسرائيلي سيجد طريقه إلى فرض ما لا تُحمد عقباه.
لم أقل كل شيء، ولكنني جاهز لأقول كل شيء إذا استمرت هذه المهزلة.
الأيام