في واحدة من "المفاجآت" السياسية التي تطل على المشهد الفلسطيني، كثيرها مثير للريبة ونادرها يمنح "الأمل المفقود" حراكا لترسيخ حقيقة الضرورة أن البعض "التائه" عقلا ورؤية لن يكون هو "سيد الموقف" في تقرير مسار المشهد رغم "العتمة" المحيطة به.
وأحد أبز مفاجآت "الضرورة السياسية والأمل المنتظر"، جاءت مبادرة د. رمضان شلح أمين عام حركة الجهاد، في ذكرى انطلاقتها الـ29، وهي مناسبة تستحق تسجيل تقدير خاص لها لتميزها الايجابي في التعامل الوطني، وحضورا دون "ضجيج" في فرض سياسي.
والحديث عن "المفاجأة" لا يقتصر على نص المبادرة ذاته، لكنها، المرة الأولى التي تتقدم بها حركة "الجهاد" بمبادرة سياسية شاملة، لتكسر "تقليدا لا يبدو حميدا"، أنها خارج "النص المبادر" في المسار السياسي، وهذه مسألة غاية في الأهمية، بانتقال الحركة عبر "مبادرة شلح" من الترقب السياسي الى محاولة الفعل السياسي، فما بالك وهي "مبادرة شاملة"، تعني أننا أمام مشهد جديد لدور الجهاد.
كما أنها المرة الأولى منذ توقيع "اتفاق أوسلو" التي تتقدم بها حركة سياسية فلسطينية بنص شامل بحثا عن "تصحيح المسار"، و "ترسيخ المسار" في مواجهة المشروع التهويدي، الى جانب أنها كسرت "طابو المبادرات الجزئية"، وتتجاوز كل ما سبقها، بما فيها وثيقة "الأسرى" عام 2006.
ومن حيث النص، وبعيدا عن "اللغة - المصطلح" الذي يحكم حديث قائد الجهاد بحكم المسؤولية التنظيمية والثقافة الفكرية الإسلاموية، فإن نص المبادرة، تعامل مع جوهر البرنامج المفترض أن يكون، مع بعض "ثغرات" تستوجب أخذها، خاصة وأن د.شلح، لم يدع الكمال السياسي فيما عرض، ولا "نصا مقدسا"، بل هي "مبادرة تمثل انطلاقة لحراك سياسي وطني فلسطيني" خارج "قطبية الانقسام"..
الدعوة لإلغاء اتفاق أوسلو، ومع تعديل للنص اللغوي، واستبداله بوقف العمل به، واعتباره منتهي الصلاحية نصا وزمنا، تكون هذه المسألة الجوهرية التي يجب بناء المشروع الوطني القادم عليها، وهي تترابط بمسألة، سحب "الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير ودولة الكيان"، والذي لم يعد له "وجودا اسرائيليا"، فدولة الكيان ألغت الاعتراف بمنظمة التحرير منذ زمن نتنياهو "الأول" بعد 1996..لذا الواقع يفرض ذلك..
لكن البديل هنا، الذي لم يشير له د.شلح، هو استبدال "الاعتراف بين المنظمة والكيان" بـ"اعتراف بين دولة فلسطين والكيان"، والمسألة هنا ليست شكلية ولا خلافا في اللغة، بل هو جوهر سياسي هام..
المطالبة بوقف العمل باتفاق أوسلو والاعتراف المتبادل بين منظمة وكيان، يجب أن يكون المسألة المركزية لأي حوار وطني حقيقي، كونه المدخل الضرورة نحو صياغة "مشروع وطني تحرري فلسطيني شامل في مواجهة مشروع تهويدي عنصري احتلالي..
ولكن ذلك يجب أن ينطلق من "حقيقة سياسية راسخة"، وهي قرار الأمم المتحدة رقم 19/ 67 لعام 2012 حيث اعترفت الأمم المتحدة بدولة فلسطين ضمن حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية المحتلة، وباتت عضوا مراقبا، وبلا أي جدال، مثل ذلك القرار "نصر تاريخيا للشعب الفلسطيني" برسم "بقايا الوطن" ضمن "دولة بحدود واضحة قاطعة"، وتلك قضية مركزية لا يجب الاستخفاف بها أو القفز عنها، عند الحديث عن "المستقبل الوطني"، بل أن قرار الاعتراف بدولة فلسطين هو ذاته باب المستقبل الوطني..مع بقاء قرار 194 حول حق العودة جزءا من "مستحقات دولة فلسطين".
والحديث هنا، عن اعتراف رسمي وليس شكلي من الأمم المتحدة، يشكل سلاحا سياسيا جوهريا لقطع الطريق على "تهويد الضفة والقدس واحياء مشروع توراتي باسم مملكة يهودا والسامرا"..التي قام أحد مستشاري الرئيس عباس بتدشينها قبل ايام ومرت بسهولة ويسر، رغم فجورها الوطني الكبير.
لا يمكن لأي حوار أو مبادرة أن يكتب له النجاح دون وضع هذا القرار في جوهر النص "السياسي المقدس"، ورغم القيمة الكبرى للقرار الأممي، فإن الرئيس محمود عباس يصر بطريقة مثيرة للشكوك المطلقة على تغييبه عن التنفيذ، رغم انه السلاح الوحيد الذي بات ممكنا لطعن المشروع التهويدي الاحتلالي طعنة سياسية قاتلة..
نعم ..اعلان قرار الأمم المتحدة حول دولة فلسطين هو الرد الأنجع - الاستراتيجي على المشروع الاحتلالي..
د.شلح، اضاء مواقفا يمكن اعتبارها قديمة لفصائل منظمة التحرير، منها ما يخص تثبيت مفهوم "المقاومة بكل أشكالها"، ولم تعد "حصرا كفاحا مسلحا" أو "البندقية هي الرد"، بل "المقاومة الشاملة هي الرد"، وهنا سجل له وضعه المقاطعة المتصاعدة للكيان العنصري شكلا للمقاومة، مع مطاردة المحتلين في المحاكم الدولية..مفهوم سياسي يمثل تطورا في رؤية الجهاد يخدم البرنامج المقبل..
وبالتأكيد، فإن الحديث عن اعادة الاعتبار لمنظمة الحرير لتصبح "إطارا جامعا" للشعب الفلسطيني، فهي تمثل انحيازا كاملا للشرعية الوطنية ضد "نزعات البديل"، التي تطل برأسها عبر مشاريع وصيغ مختلفة، سواء منها مبادرة ليبرمان الأخيرة "العصا والجزرة" أو مشروع "سلطة غزة الخاصة" الذي بدأ يتحرك عمليا على أرض الواقع، لذا فما عرضه د.شلح بخصوص منظمة التحرير يمثل تمسكا ايجابيا بالممثل الشرعي الوحيد وردا على أشكال التآمر البديلة..وهذا لا يعني عدم تطوير الممثل بما يجب أن يكون إطارا شاملا وجامعا.
د.شلح في مبادرته كسر حوار "السياحة التصالحية"، الى حوار وطني شامل لبرنامج تحرري وطني.
نعم..مبادرة د.رمضان شلح، أبو عبدالله كما يحب أن ينادى دوما، حملت جديدا سياسيا ليس لغة فقط، ولكن قوة دفع وتحديد مسار، هو لم يخترع نصا ولكنه أعاد للنص اختراعه الوطني الذي تآكل كثيرا..مبادرة تستحق كل الفعل الايجابي، دون الاختباء وراء ما ليس بها فكل ما بها وليس بها، هو جزء من حوار مفترض له أن يكون، لصياغة قاسما وطنيا سياسيا مشتركا، أداة ورؤية.
تنويه خاص: كتبت هذه الزاوية يوم 2016-10-22 بعد إطلاق الراحل الكبير النقاط العشر، التي لا تزال تحتفظ بقيمتها السياسة كمنطلق لإصلاح الذات الفلسطينية، وردا موضوعيا على محاولة حماس خطف منظمة التحرير التي كشفها رئيسها هنية يوم 4 يونيو2020.