لم يكن مفاجئاً أنّ تنتهي القمة التي عُقدت بين الرئيسين؛ الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في موسكو، بحرمان الأخير من انتزاع أي مكاسب ولو محدودة جداً، في إطار أهدافه المُعلنة في إدلب؛ حيث كان واضحاً أنّ بوتين لا يريد لقاء أردوغان إلا بعد تحقيق إنجازات على الأرض في معارك إدلب، تضمن إقناع الأخير بأنّه الطرف الأضعف هناك.
وعلى وقع المُخطط الروسي؛ جاء انعقاد قمة "بوتين - أردوغان" في موسكو، ليؤكد حقيقة أنّ القمة عُقدت بعد خسارات في إدلب والداخل التركي، كانت عنواناً للسياسة التركية تجاه الملف السوري؛ من حيث الخسائر في صفوف الجيش التركي، وهو الأكبر في جيوش الأطلسي، والتي تجاوزت ما أعلنته تركيا بكثير؛ حيث أكّدت الأخيرة أنّ الخسائر لا تزيد عن عدد أصابع اليد، بالإضافة إلى نقاط المراقبة التركية داخل الأراضي السورية المحاصرة من الجيش السوري المنهك والذي يخوض حرباً منذ أكثر من 8 أعوام، يأتي هذا كلّه في ظلّ معارضة متصاعدة داخل تركيا، ضد سياسات الرئيس الداخلية والخارجية، وعدم قدرة حزب العدالة والتنمية الحاكم على تبرير عودة جثث الجنود الأتراك من إدلب، في حرب أقل ما يقال عنها إنّها عبثية تخدم مخططات الحزب، ولا تخدم الأمن القومي التركي.
وجسّدت معارك إدلب، انقلابات القيادة التركية على مواقفها وسياساتها، كما أظهرت حجم ارتباكها؛ بطلب النصرة من الناتو ضد روسيا، رغم إعلان أردوغان مراراً نيته الانسحاب من الحلف بعد خلافات مع أمريكا والدول الأوروبية، بالتزامن مع طلب النصرة من الولايات المتحدة، التي تعرف الرئيس أردوغان عن كثب، لذا تمثّل موقف تركيا بـ "اللاحسم" ووضع شروط بالتراجع عن صفقات أسلحة عقدتها مع روسيا؛ عنوانها صواريخ "اس 400"، فيما كشفت تهديدات أردوغان بفتح حدود تركيا أمام المهاجرين إلى أوروبا، أحد أضعف أوراقه، حقيقة موقف القيادة التركية من اللاجئين والتعامل معهم على أنّهم مجرد "ورقة"، يتم استخدامها في الوقت الذي تقرره، لا علاقة لها بـ "المهاجرين والأنصار" ولا اللجوء الإنساني.
وبعيداً عن الاتفاقات السرية التي تمت خلال القمة، إلا أنّ الوثيقة المعلنة بين الجانبين؛ التركي والروسي، أكّدت أنّ بوتين انتزع من أردوغان مواقف وتعهدات جديدة، دلّت على ضعف الموقف التركي، على النحو التالي:
أولاً: رغم أنّ أردوغان مع وحدة أراضي الدولة السورية في إطار حسابات تركية مرتبطة بالحيلولة دون قيام "كيانية" كردية مستقلة، إلّا أنّ الاتفاق المعلن في هذه القمة، أكّد "التزام" تركيا باستقلال "الجمهورية العربية السورية"، وهو ما يعني التزاماً جديداً من أردوغان تجاه الدولة والحكومة السورية، وليس النظام السوري.
ثانياً: التزام الطرفين بمكافحة الإرهاب والفصائل الإرهابية، وخاصة التي اعترف مجلس الأمن بأنّها إرهابية "مثل جبهة النصرة"، وهي إحدى النقاط الجوهرية الخلافية بين تركيا وروسيا، وجاءت هذه النقطة تكراراً لما تضمنته الاتفاقيات السابقة "السرية والمعلنة" بين الرئيسين، عبر محطتي أستانا وسوتشي، ويبدو أنّ لدى موسكو معلومات موثقة حول تعاون تركيا مع النصرة وغيرها من الفصائل الإرهابية في إدلب، وأنّ القيادة التركية "تراوغ" في تنفيذ وعودها والتزاماتها بوقف دعمها لتلك الفصائل
ثالثاً: إنّ التأكيد على الحل الأممي للقضية السورية، يعني دعم أعمال اللجنة الدستورية المُشكلة لإنجاز دستور سوري جديد بإشراف الأمم المتحدة، وبالتالي فإنّ على تركيا دعم تلك اللجنة من خلال أدواتها في المعارضة السورية، المعروفة بـ "معارضة إسطنبول".
رابعاً: إنّ إنشاء ممر آمن عرضه 6 كيلومترات، جنوب طريق "ام 4"، وتسيير دوريات تركية روسية مشتركة، يعني تحقيق الهدف السوري الروسي؛ الذي طالما حاول أردوغان إفشاله، بتأمين طريق حلب دمشق الدولي تحت السيادة السورية.
ورغم تأكيد نتائج القمة مجدداً على أنّ اتجاهات السياسة التركية تجاه القضية السورية ما زالت تعكس ارتباكها؛ من حيث عدم قدرتها على التوفيق بين بناء تحالف مع واشنطن وموسكو معاً، في الوقت الذي أصبح فيه واضحاً أنّ الأخيرتين تنسقان مواقفهما تجاه الأزمة السورية حتّى قبل وصول الرئيس ترامب لإدارة البيت الأبيض، وسياسات أخرى مرفوضة من قبل الأوروبيين؛ كاستثمار قضية اللاجئين السوريين بجعلهم عنواناً لأزمة أوروبية، واستثمار العناصر الأوروبية التي انضمت لداعش والقاعدة في سوريا، وهو ما يطرح تساؤلات حول التقاطعات بين السياسات الإيرانية والتركية، واتخاذ القيادة التركية سياسات وتكتيكات النظام الإيراني نموذجاً لها، فإذا كان العالم اليوم وصل إلى مرحلة يزداد فيه المقتنعون بأنّ النظام الإيراني نظام ديكتاتوري لا يستطيع أن يتغير، فالمرجح أنّ القناعة نفسها تتردد في أوساط أمريكية وأوروبية وعواصم صناعة القرارات الدولية.