في الثامن والعشرين من أيلول الماضي فارقنا الروائي رشاد أبو شاور، كأنما أصر أن يودع الحياة في اليوم نفسه الذي ارتقى فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي أحبه وظل يكتب عنه في ذكرى رحيله، وكأنما أراد أيضاً أن يفارق في اليوم نفسه الذي اغتيل فيه السيد حسن نصرالله، وكان رشاد في مقالاته من المدافعين عن نهجه؛ نهج المقاومة، بقوة. وأنا لا أعرف أديباً فلسطينياً مقيماً في العالم العربي أفصح بوضوح عن مواقفه السياسية، منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، كرشاد الذي أقام في العقدين الأخيرين في الأردن.
ربما لا تتجاوز لقاءاتي برشاد عدد أصابع اليد الواحدة أغلبها في عمان في مكتبة دار الشروق، ومرة واحدة التقينا، بعد مجيء السلطة الفلسطينية، في مدينة نابلس على هامش مناسبة أدبية. ولكني عرفت رشاد أديباً منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، فقد قرأت بعض قصصه القصيرة وروايته «العشاق» وقصصه الطويلة الأقرب إلى النوفيلا وهي «أيام الحب والموت» و»البكاء على صدر الحبيب» و «أرض العسل» و «شبابيك زينب». وغالباً ما كنت آتي على ذكر أعماله في كتاباتي عن موضوعات وظواهر في الأدب الفلسطيني. وفي العقدين الأخيرين، وبعد التعرف إليه قرأت رواياته الأربع الأخيرة وكتبت عنها. «سأرى بعينيك يا حبيبي» (٢١٠٢) و «وداعا يا زكرين» (٢٠١٦) و»ليالي الحب والبوم» (٢٠١٨) و»ترويض النسر» (٢٠١٩).
وربما يكون قراء الأرض المحتلة عرفوه من خلال روايته «العشاق» التي أعادت وزارة الثقافة الفلسطينية طباعتها، وربما لم يقرأ له غيرها، هنا في الأرض المحتلة ١٩٤٨ و ١٩٦٧، إلا الأدباء والنقاد. فرشاد لم تعد طباعة أعماله هنا، ولم يشارك هنا كثيراً في المؤتمرات الأدبية والندوات، ولم يكتب عموداً ثابتاً في الصحف الصادرة في فلسطين التاريخية.
غالباً ما كنت أتذكر رشاد ونصوصه في كتاباتي التي تعالج موضوعاً محدداً في الأدب الفلسطيني أو ظاهرة فنية ما، كأن أكتب عن اليهود أو المخيم أو استحضار الماضي أو ظاهرة النقد السياسي في الأدب الفلسطيني أو الروح المرحة في الرواية الفلسطينية.
كانت «أرض العسل» مهمة لي وأنا أكتب عن اليهود، وكانت «العشاق» تحضر باستمرار كلما أتيت على المخيم، أما «أيام الحب والموت» فغالباً ما أشرت إليها أنها الأولى في الكتابة عن مجزرة الدوايمة في العام ١٩٤٨، بل وغالباً ما رددت أن كاتبها سبق المؤرخين الإسرائيليين الجدد في الكتابة عن المجزرة المنسية، وأما «البكاء على صدر الحبيب» فغالباً ما أشير إليها كلما تحدثت أو كتبت عن ظاهرة النقد السياسي الذاتي للثورة الفلسطينية، وكانت هذه القصة من أبكر القصص التي انتقد فيها كاتب فلسطيني نهج الثورة، وإذ التفتّ مرة إلى الروح المرحة في حياة الفلسطينيين، وندرة حضورها في أدبياتنا، لم أغفل الإشارة إلى رشاد إلى جانب توفيق زياد وإميل حبيبي.
وغالباً ما أتيت على ذكر قصته الطويلة «شبابيك زينب» التي كتب فيها عن مدينة نابلس في الانتفاضة الأولى، مقارناً الكتابة عن المدينة المذكورة في روايات سحر ابنتها ورشاد الذي لم يكن زارها.
والتفتّ إلى رشاد روائياً أكثر من التفاتي إليه كاتب قصة قصيرة، علماً بأنه عُرف كاتب قصة أكثر مما عُرف روائياً.
في السنوات العشر الأخيرة قرأت رواياته الأربع والتفتّ إليها وكانت موضع أسئلة عديدة أثرتها شغلت ذهني في الكتابة النقدية.
لم يكتب رشاد في أكثر كتاباته عن طفولته، وفي القصتين اللتين استحضر فيهما التاريخ، وهما «أرض العسل» و «أيام الحب والموت» كتب عن أحداث وأمكنة لم يرها ولم يكن شاهداً عليها. وهو ما اختلف في باقي أعماله كلها، فالمبكرة منها مثل «العشاق» و «البكاء على صدر الحبيب» كتب عن بيئته وتجاربه التي عاشها؛ عن مخيمات أريحا التي عاش فيها وكان قريباً منها، وعن تجربته في الثورة في المنفى، وواصل هذا فيما كتبه بعد الخروج من بيروت، في «آه يا بيروت» و»الرب لم يسترح في اليوم السابع».
في «وداعاً يا زكرين» و «ليالي الحب والبوم» استرجع رشاد حياة القرية زكرين التي ولد فيها في العام ١٩٤٢ وغادرها في عام النكبة ١٩٤٨، وفي الثانية واصل الكتابة عن اللجوء إلى الخليل فمخيمات بيت لحم وأريحا، وكتب عن حياته وحياة والده فيها حتى العام ١٩٦٧.
أما روايتاه «سأرى بعينيك يا حبيبي» و «ترويض النسر» فتتطابق فيهما أزمنة السرد الثلاثة؛ زمن الكتابة وزمن السرد والزمن الروائي، ويكتب فيهما عن ثنائيات البداوة والمدنية وزحف العاصمة نحو البادية واختلاط القيم وتضاربها، والسلطة والمثقف الكاتب المعارض الذي يقتل بسبب مقالاته، ثم محاولات الشركات رشوة صاحب الضمير وترويضه دون أن تنجح مع قليلين في ذلك.
والروايتان المشار إليهما تثيران أسئلة حول لجوء الكاتب في شرق المتوسط للتعميم وعدم التحديد تحسبا لردة فعل السلطة تجاهه، وهذا عموما ما تجادلت ورشاد حوله.
في السنوات الأخيرة من حياته عاد رشاد إلى طفولته ليكتب عنها قصصاً قصيرة وردت في «وداعاً يا زكرين» و «أيام الحب والموت»، وغالباً ما عقبت عليها بعبارة «وردت هذه القصة في رواية... .
برحيل رشاد أبو شاور تكون الرواية والقصة القصيرة الفلسطينية خسرت علماً مهماً من أعلامها وعلاماتها.