أثار النص الوارد في قانون دعاوى الحكومة، قبل تعديله الأسبوع الفارط، عاصفةً من النقاش حول علوية منظمة التحرير أم الدولة، وهل المنظمة دائرة من دوائر الدولة؟ أي التصغير المعتقد للمنظمة والتقليل المفترض من مكانها!. على الأغلب أن هذه الإشكالية قائمة بفعل غياب وضوح الرؤية السياسية للطبقة الحاكمة، وانغلاقها وعدم رغبتها بتقديم توضيحات سياسية للعامة، وارتباكها عند المواجهة الكلامية وسجالاتها، وعدم قدرتها على تقديم مبرراتها، وضعف اقناعها للجمهور لتصرفاتها وخطواتها وإجراءاتها، واعتقاد بعض قادتها بوجود مؤامرة كونية على وجودها وشرعيتها ومكانتها، وخوفها من التصريح بنوايا السلطات الحاكمة للهروب من المساءلة الشعبية أو تجنبها.
تظهر وثائق منظمة التحرير ذاتها؛ مثل وثيقة إعلان الاستقلال، مسألتين: الأولى؛ أن الغاية من النضال الفلسطيني هي الوصول إلى إقامة الدولة؛ هذا لا يلغي الخلاف حول حجم الدولة وحدودها الجغرافية (على حدود الرابع من حزيران 1967 أم أوسع أو اضيق من ذلك). والثانية؛ أن منظمة التحرير هي وسيلة للوصول إلى هذه الغاية. في المقابل فإن المتفق عليه في طبيعة الدولة هما أمران؛ الأول: أنها تتسع لجميع الفلسطينيين، والثاني: أنها دولة ديمقراطية. أي أن الدولة بغض النظر عن حدودها الجغرافية تضم الفلسطينيين كافة دون الانتقاص من الانتماء أو الحبل السري للعلاقة الخالدة بالوطن والرابطة القانونية بالدولة، فيما منظمة التحرير الفلسطينية "الوسيلة" تبقى وطناً معنوياً لجميع الفلسطينيين وتتحول وظيفتها من سياسية تعنى بالتمثيل السياسي؛ وهي المتبقية اليوم، إلى الرابط أو حلقة الوصل بين الفلسطينيين في الشتات وبين الدولة ومؤسساتها.
وتجسيماً لهذه الرؤية؛ أشار المجلس المركزي المنعقد في الفترة ما بين 6-8 فبراير/ شباط 2022 في بعض ثنايا بيانه، دون اظهاره أو تسليط الضوء عليه، إلى "ضرورة مواصلة العمل على تكييف الوضع القانوني لمؤسسات الدولة الفلسطينية وعلاقاتها الدولية تنفيذاً لقرار الجمعية العامة رقم 19/67 للعام 2012" الخاص برفع مكانة فلسطين إلى دولة مراقبة في الأمم المتحدة. الأمر الذي يعني وجود قرار سياسي للتحول من مؤسسات السلطة الفلسطينية "أداة منظمة التحرير في إدارة الحكم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وفقا لاتفاق أوسلو" إلى مؤسسات الدولة. فيما على أرض الواقع لم يبقَ من مسمى السلطة الفلسطينية ومؤسساتها إلا ما يتعلق بالعلاقة مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، حيث تتصرف الطبقة السياسية الحاكمة في معاملاتها الداخلية وأغلب معاملاتها وعلاقاتها الخارجية بمسمى الدولة العتيدة.
إن تجسيد قرارات منظمة التحرير الفلسطينية؛ بما فيها قرار المجلس المركزي الأخير، وفي مقدمتها وثيقة الاستقلال تحتاج إلى نضج سياسي للطبقة السياسية الحاكمة، ووضوح الرؤية، وإرادة سياسية صلبة، وإجراءات فعّالة، وتحمل الأعباء وتوزيعها بشكل عادل، والانفتاح على المواطنين وممثليهم، وتعميق الوسائل الديمقراطية بالعودة إلى الشعب وبإجراء الانتخابات العامة الحرة والنزيه ليتمكن المواطنون من اختيار ممثليهم لإدارة مؤسسات الدولة، وباستعادة الوحدة وإنهاء الانقسام. وكذلك الابتعاد عن الخرف السياسي للامساك بالكيانات السياسية على اختلاف مكانتها دون معرفة أو تحديد أيهما أقدر على جلب المنفعة للشعب، وباستخدامها كأدوات للتحكم وفقا للمزاج السياسي أو لممارسة الفهلوة السياسية.
في ظني أن الطبقة السياسية الحاكمة تفتقر إلى العقل "أي التخطيط والتدبير" وتنقصها الحصافة "أي الإدارة الفعّالة" وضعف الفطنة "أي الاتصال والتواصل السياسي الناجع"؛ لإقناع المواطنين بسياساتها وإجراءاتها وأفعالها، وباتت منعزلة تفقد الشرعية الشعبية والثورية رويداً رويداً "أي أن رصيدها في تناقص إلى حد الإفلاس". الأمر الذي أدّى إلى تراجع مكانتها وقيمتها وتآكل الثقة بمؤسسات الدولة "السلطة والمنظمة" ما يساهم في ضعف الثقة بها المفضي إلى انعدام الثقة بمجمل المنظومة السياسية المؤذن بخراب العمران الفلسطيني.