قال أحد أعضاء الكنيست العرب من القائمة المشتركة أن "حكومة إسرائيل هي حكومة نتنياهو بلا نتنياهو" وذلك في معرض رده على قرار حكومة "بينيت-لابيد" المتعلقة بالاستيطان وإغلاق المؤسسات الستة الفلسطينية في الأسبوع الأخير، لكن طبيعة الائتلاف الحاكم في إسرائيل والذي جمع أقصى اليسار وأقصى اليمين اليهودي والعربي في حكومة ائتلافية واحدة كان هدفه الأساس هو فقط تغيير "نتنياهو" الشخص ولم يكن بالمطلق يهدف لتغيير سياساته الخاصة بالموضوع الفلسطيني، لذلك كانت ولا تزال القضية الفلسطينية بالنسبة لغالبية أحزاب اليمين واليمين المتطرف والمركز عليها قواسم مشتركة كبيرة وتؤسس تقريبا لموقف واحد، فلا دولة فلسطينية كاملة السيادة ولا عودة لحدود الرابع من حزيران 1967، ولا تنازل من حيث السيادة عن البلدة القديمة والحرم القدسي الشريف (يسمونه جبل الهيكل)، ولا تفكيك للمستوطنات بشكل عام والأمن والأغوار عليها توافق عام مرتبط بالأساس بمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، إذا المسألة من حيث الموقف المبدئي محسومة ولكن اتخاذ القرارات تأتي في سياقات تؤدي لحدوث تعارضات وليس تناقضات.
أحزاب المركز واليمين وأقصى اليمين تعلم جيداً أن الرأي العام الإسرائيلي بغالبيته يتجه نحو مواقف يمينية متأصلة بمفهوم تلمودي مستند لوعد الرب "يهوة" في تعاليم التوراة بأن هذه أرض "إسرائيل" وهنا أقصد الهضاب الداخلية لفلسطين التاريخية "الضفة الغربية والقدس"، والتي تطورت لاحقا لتشمل ما بين النهرين "من النيل إلى الفرات" وهي تصور يأتي في مجال النفوذ والسيطرة أكثر من كونه احتلال عسكري واستيطاني تطهيري كما هو حاصل للدولة الفلسطينية الموعودة دوليا وفق قرارات الشرعية الدولية.
سَعت الإدارة الأمريكية الحالية ولا زالت تسعى لإبعاد "نتنياهو" عن الحكم في إسرائيل، لأسباب داخلية حيث دعم نتنياهو مرشح الحزب الجمهوري، الرئيس السابق "دونالد ترامب" وبالتالي تجاوز المرسوم له وتدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة وأحدث شرخ كبير في الّلوبيات المُجمعة على دعم "إسرائيل" خاصة في الحزب الديمقراطي الذي يحوي تيار ليبرالي يساري اجتماعي يقف بقوة مع مفهوم الدولتين لشعبين ويرفض العنصرية والاستيطان وضم القدس الشرقية، ويرى أن من حق الفلسطيني التحرر من الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل، إضافة لموقف "نتنياهو" من المسألة "الإيرانية" ورفضه "الاتفاق النووي" وضغطه الذي أدى لانسحاب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق الدولي وما رافق ذلك من تداعيات الخروج والذي تحاول إدارة "بايدن" تداركه لأن هذا أدى لأن تُصبح "إيران" جزء من التحالف مع "الصين" ليس فقط وفق مفهوم "طريق واحد وحزام واحد" بل إلى أبعد من ذلك كمفهوم استراتيجي أمني أضرّ بالأمن القومي الأمريكي، عدا عن مسألة الدولتين وضم القدس ونقل السفارة...لكن القضية الفلسطينية ليست هي المُعطى الأول والرئيس في دعم إدارة "بايدن" لإسقاط "نتنياهو" وتشكيل حكومة التناقضات الائتلافية التي لا طعم لها ولا برنامج واضح سوى أنها حكومة يتحكم فيها اليمين المتطرف الذي يسعى لإحكام سيطرته على ما تبقى من الضفة الغربية والقدس.
لذلك نرى أن حكومة "بينيت-لابيد" في سياساتها تجاه عملية السلام والقضية الفلسطينية لا تختلف عن حكومات اليمين السابقة بل هي أكثر يمينية وأكثر تطرف بما يتعلق بالاستيطان وبتهويد القدس وأقصى ما تستطيع تقديمه هو تسهيلات اقتصادية ومالية مقابل الحفاظ على الهدوء الأمني باعتباره مصلحة حيوية للدولة الإسرائيلية، أما وعود إدارة "بايدن" التي وعدت بالإيفاء بها بعد تمرير الموازنة العامة الإسرائيلية في الكنيست في شهر نوفمبر "تشرين ثاني" وهي تتعلق بفتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية والضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف اقتطاع مخصصات الأسرى من المقاصة الفلسطينية التي تُجبيها "إسرائيل" وفتح مكتب التمثيل لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، فهي وعود لا تزال بحاجة لمصداقية خاصة أن افتتاح قنصلية بحاجة لموافقة الدولة المضيفة، وفتح مكتب التمثيل بحاجة لتعديل قوانين أو تجميدها في "الكونغرس" الأمريكي، لذلك عملية الانتظار وكأن الوعد "البايداني" قائم وسيتم، مسألة بحاجة لحسم قانوني من ذوي الاختصاص، خوفاً من أن تأتي هذه الإدارة بمبررات جديدة تؤجل هذه الوعود رغم قناعتي أنها وعود جدّية ولكن ليست عملية.
أعتقد أن من يستطيع أن يقلب الطاولة ويفرض أجندته على إدارة "بايدن" كأولوية وعلى العالم هو الجانب الفلسطيني ووفق خطوات ذاتية لا ترتبط لا بوعود ولا تنتظر "ميزانية" تُمرّر، وهذا يستدعي بالأساس إنهاء الانقسام والتوافق على برنامج وطني وعلى أدوات كفاحية شعبية وسلمية، وأول شيء يمكن القيام به وبشكل سريع هو ضم حركتا "حماس" و "الجهاد" لمنظمة التحرير الفلسطينية ووفقا لصيغة تراعي الواقع الفلسطيني أولا وأخيرا، وهناك الكثير من الاتفاقات التي تمت يمكن اعتمادها كصيغ أساسية للوحدة الفلسطينية وعلى أن يبقى برنامج المنظمة المُعلن هو الحاكم ودون الطلب من الفصائل مواقف فردية، أي التعامل وفق الصيغة القائمة حاليا فالجبهتان الشعبية والديمقراطية جزء من المنظمة ولكن موقفهم السياسي من قضايا الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي يختلف.
البيت الفلسطيني متمثلا بالمنظمة هو الأولوية على غيره، والبدء فيه سيحسم الكثير من القضايا خاصة بما يتعلق بالانقسام بين سلطة شرعية جاءت وفقا لاتفاق "أوسلو" منتهي الصلاحية، وسلطة أمر واقع في "غزة" قائمة بحكم الاستدعاء الإسرائيلي غير المباشر المُخطط للسيطرة عليها لضرب الوحدة الجغرافية والسياسية الفلسطينية، لذلك مهما كانت مبررات السيطرة بالقوة وحتى لو كانت دقيقة في صحتها فقد حققت الهدف الإسرائيلي بامتياز، وهنا يجب أن تعي كافة الأطراف أن العنوان الأساسي للشعب الفلسطيني وصاحب الولاية على الشعب الفلسطيني هي منظمة التحرير الفلسطينية، لا السلطة المقيدة باتفاقيات انتهت بفعل ممارسات الطرف الإسرائيلي على الأرض وعدم الالتزام فيها، ولا السلطة المحاصرة من قبل دولة الاحتلال والتي تبحث سُلطتها عن ثغرات معيشية للسكان المحاصرين.
فقط عبر منظمة التحرير الجامعة للكل الفلسطيني فصائل ومستقلين هي الوحيدة القادرة على اتخاذ خطوات تؤدي لفرض الأجندة الفلسطينية على ما يُسمى الشرعية الدولية، وبما يستدعي ذلك من اتفاق على تحرك ميداني لمقاومة الاستيطان وتهويد القدس ومناصرة الأسرى، أما البقاء في دائرة الحوار الأولي لفصائل المنظمة ثم الحوار الشامل وعلى أهميته فلن يُجدي نفعا، لأنه استنفذ نفسه وخلص إلى اتفاقيات في "القاهرة" و "بيروت" و "الشاطئ" و "أنقرة" و "قطر".
وحدة منظمة التحرير والتنسيق مع كل الأشقاء العرب بما يتعلق بالوضع الفلسطيني من حيث التأكيد على رفض الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس وتقديم المساعدة المالية للمنظمة وفق آليات جديدة، وتعزيز التحرك مع العالم الإسلامي والمجتمع الدولي، يرافقه تحرك شعبي ميداني جامع للكل الفلسطيني، وحده القادر على إعادة ترتيب ليس أجندة الولايات المتحدة فحسب بل دولة الاحتلال والعالم أجمع، وغير ذلك سيبقى عنوانه ردّات فعل ممن هو غير قادر على فعل شيء يتجاوز اللفظ والكلام، خاصة أن الوعود "البايدانية" لا طعم لها كما حكومة "بينيت- لابيد"، بل لها روائح موسيقية مُخدرة لأنها تُطرب بعض الآذان فينا.