كان من الطبيعي أن يذهب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى بريطانيا في أولى جولاته الخارجية، منذ أن دخل البيت الأبيض رئيساً في العشرين من يناير أول هذه السنة.
ففي بريطانيا حضر اجتماعات مجموعة السبع التي تضم الولايات المتحدة وكندا، واليابان، وإيطاليا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا.. وهذه هي الدول السبع الصناعية الأكبر في العالم.
وكان من الطبيعي أن يطير بايدن من بريطانيا إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث حضر اجتماعات حلف شمال الأطلسي.
فالولايات المتحدة تظل هي الدولة الأكبر في الحلف، وتظل هي القوة الأعلى بين دوله على كل مستوى، وتظل هي العقل القادر لتحريك الحلف في كل اتجاه.
ولكن من غير الطبيعي أن يطير الرئيس الأمريكي من بروكسل إلى جنيف، حيث التقى في تلك المدينة السويسرية الهادئة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كان ذلك من غير الطبيعي لأن بايدن نفسه، هو الذي كان قد وصف بوتين في حديث سابق له بأنه "قاتل!".
حدث هذا قبل أسابيع، ونشرت وسائل الإعلام كلها ما صدر عن سيد البيت الأبيض بحق سيد الكرملين، وقد أدى ذلك في وقته إلى شيء من العصبية بدت واضحة في رد الفعل الروسي، ولكن العصبية لم تمنع الروس من الذهاب إلى قمة مع الرجل الذي وصف بوتين بكلمة لم يصفه بها أحد من قبل.
وقد كان هذا هو حال السياسة دائماً بين الدول في كل عهودها وعصورها، وكان الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، هو أول من وضع مبادئ مثل هذه السياسة بين الدول، عندما قال منذ وقت مبكر للغاية، إن بينه وبين الناس شعرة إذا شدوها من جانبهم أرخاها هو، وإذا أرخوها فإنه يشدها هو من جانبه.
ولا تزال مثل هذه الشعرة قائمة بين الدول والعواصم على امتداد العالم، مهما قالت كل عاصمة بحق الأخرى، ومهما وصف الرؤساء بعضهم بعضاً علناً وعلى الملأ.. وهل هناك أشد من أن يقول بايدن إن بوتين كذا، ثم يلتقيان على طاولة واحدة؟
من قبل.. كانت آخر مرة استضافت فيها المدينة السويسرية لقاء بين واشنطن وموسكو، هي المرة التي ذهب فيها رونالد ريجان وميخائيل جورباتشوف إلى لقاء بين الدولتين هناك منتصف ثمانينات القرن الماضي. كان ذلك بالطبع وقت أن كان في العالم شيء اسمه الاتحاد السوفييتي، وعندما كان جورباتشوف يجلس على قمة الاتحاد قبل أن ينهار مطلع التسعينات.
وقد راح بايدن يجرب أعصاب بوتين فتحدث عن خطوط حمراء سيضعها أمامه حين يلتقيه، ولم يشأ بوتين أن يجعل الفرصة تمر، فراح يجرب الفكرة نفسها، وتكلم من ناحيته عن أن لديه أيضاً خطوطه الحمراء التي سيضعها أمام نظيره الأمريكي عندما يلتقيه.
والغريب أن الرئيس الأمريكي كان طوال رحلته في بريطانيا وفي بلجيكا يتحدث عن خصمين سياسيين رئيسيين لبلاده في العالم هما روسيا والصين، وكان يحشد في العلن ضد كل خصم منهما، وكان يرى أنهما يهددان بلاده على مستويات كثيرة.
كل ذلك لم يمنع كليهما من القبول بفكرة اللقاء على أرض محايدة في سويسرا، ولا من أن يمازح أحدهما الآخر، ولا من أن يتبادلان النكات السياسية ربما. فهذه هي السياسة التي تجعل من خصم الأمس حليف أو صديق أو رفيق اليوم، دون أن يرمش لها جفن.
الخليج