غزة.. ما بين إعادة الإعمار والهندسة وخطة شروق الشمس
نشر بتاريخ: 2025/12/21 (آخر تحديث: 2025/12/21 الساعة: 15:52)

في مقالنا السابق غزة بين الإعمار وإعادة الهندسة ناقشنا كيف أن ما يُطرح لمستقبل قطاع غزة بعد الحرب لا يقتصر على إعادة البناء وإزالة آثار الدمار، بل يتجاوز ذلك إلى مشروع أعمق، يقوم على إعادة صياغة الجغرافيا، وإعادة توزيع السكان، وإعادة تعريف وظيفة القطاع سياسيا وأمنيا. خلص المقال حينها إلى أن الإعمار المطروح ليس بريئا ولا محايدا، بل مشروط، ومؤطر برؤية تسعى إلى ضبط غزة على المدى الطويل وإخراجها من معادلة الصراع.

اليوم، ومع تزايد الحديث عن ما يسمى خطة شروق الشمس، المنسوبة إلى "ستيف ويتكوف وجاريدكوشنير" يتبين أن ذلك السيناريو لم يعد مجرد تحليل استشرافي، بل بدأ يتحول إلى مقاربة سياسية متداولة في النقاشات الدولية حول “اليوم التالي” في غزة. من هنا، فإن مقال اليوم لا ينفصل عن المقال السابق، بل يبني عليه، وينتقل من تفكيك فكرة إعادة الهندسة إلى تحليل أداتها السياسية الجديدة.

من إدارة الدمار إلى إدارة السكان تُقدَّم خطة شروق الشمس إعلاميا باعتبارها رؤية للخروج من الحرب، وإعادة الحياة إلى غزة عبر الإعمار والاستثمار وتحسين الظروف المعيشية. غير أن تفكيك عناصرها يكشف أنها ليست خطة سلام، ولا حتى خطة تسوية، بل خطة إدارة ما بعد الحرب.

جوهر الخطة يقوم على معادلة واضحة، إعمار مقابل تهدئة، تمويل مقابل نزع سلاح، إدارة مدنية مقابل تعليق السياسة. وهي معادلة لا تختلف في مضمونها عن منطق إعادة الهندسة الذي جرى تناوله سابقا، لكنها أكثر نضجا من حيث الأدوات.

فغزة، في هذا التصور، لا تُعاد إلى أهلها بوصفها فضاء سياديا، بل تُعاد تنظيمها وهندستها باعتبارها مساحة يجب ضبطها، تحييدها، وربط استقرارها بالأداء الاقتصادي لا بالحقوق الوطنية

في مقال “غزة بين الإعمار وإعادة الهندسة” جرى تسليط الضوء على تصور تحويل غزة الغربية إلى واجهة ساحلية عالمية، عالية القيمة، تضم مراكز مالية، منتجعات سياحية، وجزر اصطناعية، مقابل تركيز الكثافة السكانية " فقط 20-25% من السكان" في الشرق والجنوب، مع فتح مسارات هجرة توصف بالطوعية لباقي السكان.

خطة شروق الشمس لا تنقض هذا التصور، بل تؤكده، وتعيد تعريف الدور وتضفي عليه بعدا سياسيا وظيفيا. فالقطاع لا يُعاد بناؤه ليكون جزءا من مشروع وطني فلسطيني، بل ليؤدي وظيفة محددة، الاستقرار الأمني، والاندماج الاقتصادي المشروط، ومنع عودة أي فاعلية سياسية غير مرغوب بها.

بهذا المعنى، تصبح المدينة واجهة، لا مجتمعا، ويصبح السكان عنصرا يجب إدارته، لا أصحاب حق في تقرير المصير.

كما في كافة السيناريوهات، يُطرح نزع سلاح حماس بوصفه الشرط المركزي لأي إعمار. والجديد هنا أن نزع السلاح يتحول من مطلب أمني إلى أداة لإعادة تشكيل النظام السياسي والاجتماعي داخل غزة.

فباسم هذا الشرط، تُفرض إدارة مدنية انتقالية، توصف بالتكنوقراطية أو الدولية، لكنها بلا سيادة حقيقية. وباسمه، يُعاد رسم شكل الحكم، ويُقصى أي تمثيل سياسي لا يتوافق مع الرؤية المفروضة.

وهنا تتأكد الفكرة الجوهرية، نزع السلاح لا يُستخدم فقط لمنع العنف، بل لفتح الباب أمام إعادة هندسة غزة، عمرانيا وسياسيا، وفق نموذج يمنع العودة إلى ما قبل الحرب.

من الناحية القانونية، تثير خطة شروق الشمس إشكالات عميقة. فالقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف، يحظر أي تغيير ديموغرافي قسري في الأراضي المحتلة، سواء تم بشكل مباشر أو عبر ضغوط غير مباشرة تؤدي إلى “هجرة طوعية” شكلية.

كما أن ربط الإعمار بشروط سياسية وأمنية، مع استمرار السيطرة الفعلية لقوة الاحتلال على الحدود والمجال الجوي والمعابر، يضع الخطة في منطقة رمادية قانونيا. فالإعمار في هذه الحالة لا يتم في إطار سيادة وطنية، بل في ظل وضع احتلال مُعاد إنتاجه بصيغة ناعمة.

التجارب الدولية تظهر أن هذا النوع من “الإدارة الانتقالية” غالبا ما يتحول إلى وضع دائم، كما حدث في حالات متعددة، حيث استُخدمت الوصاية الدولية لتجميد النزاعات لا حلها.

عند مقارنة ما يُطرح لغزة بتجارب دولية أخرى، من البوسنة إلى كوسوفو، إلى بعض نماذج “إعادة الإعمار المشروط” في مناطق نزاع أخرى، يتضح نمط متكرر، الإعمار ينجح نسبيا عندما يكون جزءا من حل سياسي واضح، ويفشل أو يتحول إلى عبء عندما يُستخدم بديلا عن الحل.

في الحالات التي جرى فيها تجاهل الإرادة المحلية، أو فرض نماذج حكم من الخارج، ظهرت أنظمة هشة، تعتمد على التمويل الدولي، وتفتقر إلى الشرعية الشعبية، ما جعل الاستقرار مؤقتا وقابلا للانفجار.

غزة، وفق هذا المنطق المقارن، مرشحة لمصير مشابه، إذا جرى التعامل معها كمشروع إدارة أزمات لا كقضية تحرر وطني.

ولا يمكن فهم خطة شروق الشمس بمعزل عن الإرث الفكري لما عُرف ب صفقة القرن في عهد ترامب الفكرة الأساسية لم تتغير، الاقتصاد أولا، السياسة لاحقا، أو ربما أبدا.

الفرق أن صفقة القرن طُرحت في سياق سياسي تقليدي، بينما تُطرح خطة شروق الشمس فوق ركام حرب مدمرة، ما يجعل العرض الاقتصادي يبدو كخيار نجاة، لا كتنازل سياسي.

في المقال السابق حذّرنا من إعادة هندسة غزة تحت غطاء الإعمار. واليوم أؤكد أن خطة شروق الشمس تمثل الترجمة السياسية لذلك التحذير. نحن أمام انتقال من مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ، ومن الأفكار النظرية إلى المقاربات العملية.

نعم غزة تحتاج إلى إعمار بلا شك، لكنها تحتاج قبل ذلك إلى اعتراف بحق سكانها في الأرض والسيادة والقرار. أي مشروع يتجاوز هذه الحقيقة، مهما بدا واقعيا أو مغلفا بلغة الاستقرار والتنمية، لن يصنع شروقا حقيقيا، بل سيعيد إنتاج الأزمة بأدوات أكثر هدوءا، وأكثر ديمومة.