السيولة النقدية إلى أين؟ بين العملات المهترئة وسلطة المحافظ الإلكترونية
نشر بتاريخ: 2025/12/13 (آخر تحديث: 2025/12/14 الساعة: 19:00)

لم تعد أزمة السيولة النقدية في غزة شأناً اقتصادياً عابراً، بل تحوّلت إلى جرحٍ يومي مفتوح في جيوب الناس، وقلقٍ مزمن يرافقهم في الأسواق، والبيوت، وعلى أبواب الصرافين، أن تحمل ورقة نقدية من فئة مائة شيكل بات مجازفة حقيقية؛ لا تعرف إن كانت ستُقبل أم تُرفض، وإن قُبلت فكم مرة ستعود إليك بحجة الاستبدال، وكم إهانة ستُدفع على طاولة التاجر أو شباك الصرّاف.

أوراق مهترئة… ومواطن مرهق

الأوراق النقدية المتآكلة لم تُهلك العملة وحدها، بل أرهقت الإنسان. المواطن الفلسطيني بات يخشى أن يُتَّهم بالتزوير، أو يُجبر على خصمٍ ظالم، أو يُرَدّ ماله كأنه بلا قيمة. صار المال عبئاً نفسياً قبل أن يكون أداة تبادل، وكأن كرامة الناس تُقاس بصلابة الورق لا بعرق الجباه.

سيولة تُسحب… وبدائل تُفرض

في المقابل، تُسحب السيولة من السوق دون عودة. لا ضخّ منتظماً للأموال النقدية، ولا حلول جذرية تُطرَح. وفي الفراغ، تزدهر “البدائل”: بطاقات، محافظ إلكترونية، وتطبيقات بنكية. هي أدوات تقنية مفيدة حين تكون خياراً، لكنها حين تُفرض تحت الضغط تتحوّل إلى قيدٍ خانق.

عمولات مُلتبسة، فروقات صرف فاحشة، نسب سحب جنونية، وربا مقنّع يلتهم رواتب الموظفين، حتى صار الراتب يُصرف بنِسَب قد تتجاوز نصف قيمته. هنا لا نتحدث عن خللٍ مالي فقط، بل عن انتهاكٍ صارخ للعدالة الإنسانية.

الدولار والدينار… بنصف القيمة

لا يقف التشوّه عند الشيكل. الدولار والدينار يُصرَفان بقيمٍ متدنية تلامس نصف قيمتهما الحقيقية. سوق سوداء يديرها قِلّة من المتربحين، استثمروا في وجع الناس، وحوّلوا الأزمة إلى مشروع جشع مفتوح، تُدار فيه المعاناة بأظافر الطمع لا بضوابط القانون.

أكشاك “تصليح العملة”… ذروة الفاجعة

في مشهدٍ غير مسبوق، ظهرت في أسواق غزة أكشاك لـ“تصليح” العملة بالغراء والألوان كي تصبح “صالحة للتداول”. صورة مُخجلة لاقتصادٍ مُنهك، ولمواطنٍ يُجبَر على ترميم ماله لأن المؤسسات عجزت عن حمايته.

هل ما يجري مقصود؟

السؤال الذي يُهمَس به اليوم صار صرخةً علنية:

هل سحب السيولة عملية مقصودة ومُبرمجة؟

وهل الهدف أن تتسيّد المحافظ الإلكترونية لأنها مُراقَبة، فتغدو كل حركة شراء مكشوفة، محسوبة، مُسجَّلة؟

بين الشك واليقين، يبقى الواقع أقسى من أي نظرية.

المواطن… الضحية الدائمة

في كل السيناريوهات، المواطن هو الخاسر الأكبر. عالقٌ بين قبضة احتلال يخنق الاقتصاد، وجشع تجارٍ متوحشين، وصمتٍ رسمي يتأرجح بين العجز والتواطؤ. صراعٌ لا يرحم الفقير، ولا ينتظر راتب الموظف.

صراع العملات: ماضٍ أم مستقبل؟

إنه صراع بين الورق والتطبيق، بين النقد والتقنية، وربما بين السيطرة والحرية. هل ينتصر الماضي بثقله؟ أم المستقبل بسطوته؟ أم يُسحق الحاضر، ومعه الإنسان، بين الاثنين؟

خلاصة وحلول مؤثرة

هذه ليست معركة تقنية بين وسيلة دفع وأخرى، بل معركة كرامة وعدالة. وكسر الحلقة يبدأ بخطوات واضحة لا تحتمل التأجيل:

1. رقابة صارمة وفاعلة على الصرافين والتجار، وتجريم العمولات والربا تحت أي مسمى، وتفعيل العقوبات دون انتقائية.

2. إلزام البنوك والمؤسسات المعنية بضخ سيولة نقدية سليمة وقابلة للتداول إلى قطاع غزة بشكل منتظم.

3. توحيد أسعار الصرف وملاحقة السوق السوداء قانونياً ومجتمعياً، وتجفيف منابع الاحتكار.

4. حماية المستهلك بتشريعات واضحة تُجرّم رفض العملة المتداولة رسمياً وتمنع الخصومات القسرية.

5. استخدام متوازن للتطبيقات البنكية كخيار طوعي لا بديل قسري، دون تحميل المواطن كلفة الانهيار المالي.

6. انحياز وطني صريح للمؤسسات والقيادات إلى الناس وحقوقهم، لا إلى الأرباح ولا إلى إدارة الأزمة بالصمت.

في المحصلة، ليست القضية ورقة نقدية في مواجهة تطبيق ذكي، بل كرامة إنسان في مواجهة استغلالٍ ممنهج. وإن لم يُحسم هذا الصراع بعدالة، فسيظل المواطن الفلسطيني يدفع الثمن من قوته، وعرقه، وصبره.