التاريخ بين التسلط الأبوي وقصص الحب المبتورة
نشر بتاريخ: 2025/11/24 (آخر تحديث: 2025/12/05 الساعة: 15:33)

متابعات: تتخذ رواية «مشربية زهزهان»، للروائية المصرية شيماء غنيم، من النصف الثاني للقرن التاسع عشر فضاءً زمنياً لها، وتحديداً فترة نهايات حكم الخديو إسماعيل، ثم تولي ابنه الخديو توفيق، مروراً بثورة أحمد عرابي، وانكسارها، واحتلال الإنجليز مصر. لكنَّ الرواية، رغم هذا التحديد الزمني للحقبة السياسية، لم تنشغل بالتأريخ للحكام وزعماء المعارضة، بل برواية التاريخ من أسفل، من الناس وأحوالهم، فتحكي عن أبناء الشعب المغبونين، وعن ظروفهم وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من خلال سيرة أبناء إحدى الحارات وسط القاهرة.

لم يمنح الخطاب السردي للشخصيات الوطنية الشهيرة، مثل عرابي وعبد الله النديم، سوى مساحات سردية محدودة، كشخصيات ثانوية، فالبطولة في هذا المتن السردي ليست لهما، بل لمجموعة من المنسحقين والمنسحقات، الذين يطحنهم الجهل والفقر والمرض، فضلاً عن التقسيمات الطبقية إلى سادة وعبيد، وتنعكس على حيواتهم بالضرورة آثار وظلال التحولات السياسية الكبرى في الدولة المصرية آنذاك، وفي الوقت نفسه كانت أحوالهم المتردية هذه تمثل تربة خصبة لهذه التحولات التي انتهت بالاستعمار الإنجليزي. وعلى مستوى الزمن السردي، تبدأ الرواية من عودة «أمين»، ابن سليمان بك، من بعثته للدراسة في فرنسا، ليجد الحارة وقد تبدلت أحوالها، وحتى أبوه وأمه وأخته، وبيتهم كله لم يعد كما تركه، ثم يستعيد السرد الأحداث الماضية في فترة غياب هذا الابن، موضحاً كيف تبدلت الأحوال، في استرجاع زمني واضح، حتى نصل إلى نقطة بدء الرواية، فنعود للزمن المضارع، وسرد الوقائع التي تحدث عقب عودة هذا الابن، ومحاولته تصحيح المسارات.

الرواية، الصادرة عن دار «العين» في القاهرة، تدور أحداثها كلها تقريباً في فضاء حارة صغيرة في أحد أحياء القاهرة القديمة، وتحديداً بالقرب من قصر عابدين، وعلى بُعد مسافة قليلة من مركز الحكم، حيث الحفلات والرفاهية داخل القصر، بينما في الجوار تغرق الحارة وأبناؤها في الفقر والبؤس، فتصير بمن فيها، تمثيلاً لما كان يدور في الوطن كله، ونرى فيها نماذج للمقاومة، مقاومة السراي ومقاومة الاحتلال، مثل: «صابر» و«السايس» و«اليوزباشي إسماعيل» و«معلم القهوة»، وفيها كذلك تمثيل للفساد المستشري في جسد الحارة والوطن؛ فالفتوة وشيخ الحارة ومعاون قسم الشرطة (القراقول)، يسهمون في إفساد الحارة بأفعالهم ورؤاهم، وفيها أيضاً «الشيخ عطا الله» رمز التدين الوسطي الأقرب إلى التصوف، وكذلك «سليمان بيه الخشاب»، ثري الحارة وأشهر رجالاتها، بوصفه نموذجاً للبرجوازية الصاعدة، تربطه علاقات بالسراي ورجال السلطة، ومتزوج من امرأة ذات أصول شركسية، هي «خديجة هانم»، التي تنظر إلى المصريين من أهل الحارة بتعالٍ وتحقير، وتعدّهم فلاحين لا يرتقون إلى مستواها وأصولها النبيلة، وتخشى على ابنها «أمين»، وابنتها «زهزهان» من هؤلاء الفلاحين السوقة.

يتخذ السرد مسارين؛ أحدهما بضمير الراوي العليم، والآخر والأكثر هيمنة هو السرد بضمير الأنا، من منظور «زهزهان»، ابنة «سليمان بك»، والشخصية الرئيسية التي تمسك بزمام الحكي، فنرى الحارة وأحوالها وتحولاتها من منظورها وبعينيها، فهي غير مسموح لها، بوصفها ابنة أكابر، أن تنزل الحارة وتحتكّ بأهلها، وممنوعة من الاختلاط بهم، بأوامر من أمها الشركسية، لكنها رغم ذلك ترى وتتابع كل ما يجري عبر الإطلال من مشربيتها العالية، حيث تراقب وترصد وتحلل كل ما يحدث، وتمسك بكل خيوط الأحداث في يدها من مكانها المتعالي، المحبوسة داخله، ورغم هذا التعالي في الموقع المكاني، فإنها ليست متعالية أخلاقياً أو طبقياً كأمها، بل تربطها علاقات حميمة بكثير من نساء وبنات الحارة المعدمات، بل تقع في حب «صابر» الفلاح الذي انضم إلى المقاومة، مقاومة سلطة الخديو، ثم مقاومة الاحتلال الإنجليزي.

في القلب من هذه الصراعات السياسية والطبقية، تبرز قصة ثلاث فتيات، يمثلن عصب الرواية ومحورها، ولكلٍّ منهن أزماتها ومآسيها، أولهن «زهزهان» ابنة البرجوازية، التي تعاني من قهر طبقتها لها، ومن ضغط القيم الذكورية الأبوية عليها، ممثلةً في وصايا أمها وتحكماتها، ورؤيتها لعلاقة المرأة بالرجل، فضلاً عن تسلط الأب، وكذا التقاليد الاجتماعية التي تشعر بأنها مسجونة داخلها، وتحاول دوماً التمرد عليها والفكاك منها، خصوصاً فيما يتعلق بحبها لـ«صابر» الفقير، لكنَّ سلطة العائلة والتقاليد ترفض هذا الحب، ويزوجها أبوها عنوةً رجلاً في مثل عمره، ليبعدها عن حبيبها غير اللائق اجتماعياً من منظوره، بعد أن يُبرحها ضرباً، ومن ثم تطاردها التعاسة في بيت زوجها، ومع زوجتيه الأوليين، وانتقالها من التبعية لسلطة الأب إلى سلطة الزوج وزوجتيه من الهوانم، وسرعان ما يموت هذا الزوج فتعود مرة أخرى إلى الحارة، حيث عالمها الأثير.

الشخصية الثانية «حليمة»، الخادمة في منزل «سليمان بك»، التي كانت أمها ومن قبلها جدتها مجرد «جواري» له ولأبيه ولأجداده، فهي تحمل ميراث العبودية الذي أثقل أسلافها من نساء عائلتها. ورغم أن «سليمان بك» أعتقها هي وأمها، فإنها ظلت مجرد خادمة، ولم تعرف أبداً -حتى رحيلها المأساوي- أنها شقيقة مخدومها غير المعترف بها، لكنها الصديقة الأقرب للبطلة «زهزهان»، فالعلاقة بينهما علاقة صديقتين في عمر متقارب، وليست سيدة بمخدومتها، وكانت حليمة دائماً رسولها إلى «صابر». أما الشخصية الثالثة فهي «فضل واسع»، سليطة اللسان، التي تعمل في حمام السيدات، وتعاني قهر الأب وقسوته، وتقارع العالم عنفاً بعنف، في محاولة لاتقاء شرور من حولها، الذين يترصدونها، وأولهم والدها المنبوذ من الحارة كلها، ويريد قتلها، لولا إعاقة جسدية في قدمه تمنعه عن التغلب عليها، لكنها في داخلها رقيقة، ومُحبّة للخير.

الشخصيات الثلاث يجمعهن القهر الذكوري بدرجات مختلفة، كما يجمعهن العمل في المقاومة، ويتخذن من «إسطبل» الخيول في منزل البك مركزاً للتخطيط للمقاومة السياسية ضد الخديو، ثم ضد الإنجليز، فرغم التفاوت الطبقي بينهن، فإنهن يعين أن الفساد السياسي والثقافة الذكورية الأبوية لا تفرِّق بينهن، وقادرة على البطش بهن، وتجمعهن كذلك قصص الحب المبتورة، فلا واحدة منهن تتحقق عاطفياً، إذ إن قصة حب «زهزهان» و«صابر» لا تصل إلى مبتغاها بسبب الفروق الطبقية ورفض الأب والأم، أما «حليمة» فتحب «أمين»، شقيق زهزهان، وابن سيدها ومخدومها، ولا تجرؤ حتى على أن تعلن هذا الحب بينها وبين نفسها، لكنّ «زهزهان» تراه في عينيها، وتشفق عليها. أما «فضل واسع»، ألمع شخصيات الرواية، فتحب «صابر» أيضاً، لكنها تكتم هذا الحب، لمعرفتها أنه يعيش قصة حب مع صديقتها «زهزهان»، ولا يعيرها انتباهاً.

تنتهي الرواية نهايةً ذكيةً، مؤكدةً أن الخلاص من سطوة التقاليد البالية والاستعمار والفساد السياسي والاجتماعي، ومن كل السلبيات، لن يتأتى إلا بالوعي والتعليم، فتحوّل «زهزهان» البيت الكبير إلى مدرسة لتعليم الفتيات، ليمتلكن مصائرهن، ويساعدها شقيقها «أمين»، الذي تلقى تعليماً في أوروبا، ويؤمن بأن التحرر لن يتأتى إلا بإعادة تربية العقول، فهي الخطوة الأولى في طريق التحرر والخلاص الفردي والجمعي.