زمــن الإخـــوان
عبد الغني سلامة
زمــن الإخـــوان
في صبيحة اليوم الأول من العام 1400 هجري، بدأت وكالات الأنباء تتناقل خبر اقتحام «جهيمان» للحرم المكي.. قبلها، وفي نفس السنة، كان «الخميني» قد عاد من منفاه في باريس، ليعلن قيام الجمهورية الإسلامية.. وقبل انتهاء العام كانت القوات السوفيتية تجتاح أفغانستان.. في خريف العام التالي، اشتعلت الحرب بين الجارتين اللدودتين العراق وإيران.
أثارت قصة «جهيمان» الحيرة في نفوسنا، وانقسم الناس بين مؤيد ومعارض، وكذلك الحرب العراقية الإيرانية، بيد أن نجاح الثورة الإيرانية، واشتعال الحرب الأفغانية لاقيا تأييدا من قبل الجميع تقريبا.. المهم أن تلك الأحداث وغيرها، لعبت الدور الأهم في انطلاقة الإسلام السياسي بنسخته المعاصرة، وانتشاره، تحت مسميات «الصحوة»، و»المد الديني».
في تلك الفترة، مِثل كثيرين من أقراني، انتميتُ لجماعة الإخوان المسلمين، وصرتُ أواظب على حضور جميع الصلوات في المسجد، وأستمع للدروس الدينية، ولا أتغيب عن الاجتماع الأسبوعي «للأسرة»؛ أي الخلية التنظيمية الإخوانية، وهي بحدود خمسة أفراد، يترأسها شيخ أكبر سنا، وأكثر معرفة.
ربما كانت «صويلح» المدينة الأردنية الأهم لجماعة الإخوان في تلك الفترة، فمنها انطلقت وتوسعت.. وبالذات من «الحي الشرقي»، وهو حي شعبي مكتظ، أغلبه من الطبقة الفقيرة ودون الوسطى، وبسبب قربه من الجامعة الأردنية، التي كانت تضم كلية الشريعة، فقد سكَنَ معظم أساتذة وطلبة الكلية في ذلك الحي، فصار جامع «عبد الرحمن بن عوف» مركزا للنشاط الدعوي والتنظيمي للجماعة.
كان لخطابات المشايخ «عبد الله عزام»، و»أبو ساجدة» و»همام سعيد» تأثير كبير فينا، وكذلك ما كنا نتلقاه من تربية حزبية وأيديولوجية من خلال أنشطة الجماعة، فإضافة للدرس الديني الذي يعقب صلاة المغرب، وهو مُتاح للجميع، كانت هناك أنشطة خاصة بأعضاء الجماعة، مثل الأنشطة التي كانت تنظم في «دار القرآن الكريم»، في الطابق الأسفل للجامع، وكذلك الأنشطة التي كانت تُقام في مقر الجماعة (جميع مقرات الإخوان المنتشرة في جميع المحافظات الأردنية كانت علنية ومرخصة)، بالإضافة للرحلات الجماعية، والمخيمات الكشفية.. وهذه أنشطة معروفة للجميع، ولا أذيع سراً هنا.. المقصود من ذكرها أنَّ ما سأقوله مأخوذ من المصدر الأساسي، وكنتُ شاهدا عليه، وبالتالي، هي نظرة عامة، لأحداثٍ مهمة، ولكن من منظور شخصي.
مع إني نشأت في أسرة مسلمة، متدينة، محافظة.. إلا أني بدأتُ في ذلك السن، أكتشف إسلاما جديدا، وبدأت أختبر تدينا مغايرا، عما ألفته سابقا.. كنا بعد كل اجتماع حزبي نخرج بنتائج عامة، مفادها أننا نعيش في مجتمع جاهلي، وأنَّ النظام كافر وعميل، وأن فهم الناس للإسلام خاطئ وقاصر، والأصدقاء ممن هم خارج الإخوان هو أصحاب سوء، يتوجب علينا هدايتهم (ضمهم للإخوان) أو مقاطعتهم.. أما العائلة الصغيرة التي نعيش في كنفها، فهي من وجهة نظرهم لا تقيم الإسلام الصحيح، وتقترف الكثير من المعاصي، وأن علينا مخالفتهم وعصيانهم في كل الأمور المتصلة بفكر الجماعة وأنشطتها (دون أن نصل مرحلة عقوق الوالدين).. وكنا نتلقى تعليمات معينة، مثل وجوب منع الاستماع للأغاني في البيت، أو مشاهدة المسلسلات العربية (وبدرجة أشد تحريما الأفلام الأجنبية)، وضرورة إلزام الفتيات لبس الحجاب والجلباب (بشكل ومواصفات معينة وصارمة، بما في ذلك رفض الثوب الفلسطيني التراثي).
كان أمير الجماعة يحثنا على التعبير عن رفضنا للمجتمع الجاهلي، بما في ذلك تصرفنا مع الأهل والشقيقات، حتى لو تطلب ذلك الدخول في معارك بالأيدي، أو ترك البيت نهائيا.
بالنسبة للرجال الكبار ممن انضموا للجماعة كان الأمر أسهل؛ فطبيعة دورهم الاجتماعي «العقلية البطريركية» تتيح لهم إمكانية فرض تلك التعليمات بالقوة. وصل الأمر ببعض الآباء منع اقتناء العديد من أدوات العصر الحديثة، خاصة التلفزيون.
في المدرسة (والجامعة)، بدأت تظهر أنواع من الانفصام بين الطلبة الإخوان وزملائهم، وحتى بين المعلمين.. وكان يُطلب منا التصدي للمعلمين الذين ينشرون أفكار الوطنية والقومية، أو ممن لا يسيرون على نهج الإخوان، وصل الأمر أحيانا إلى العراك بالأيدي، والتهديد بالضرب.
في مادة اللغة العربية قصيدة عنوانها «القومية العربية»، قبيل موعد الحصة بأيام، قام أمير الأسرة التي كنت أحد أعضائها بتدريبي على الرد، عليّ أن أحفظ الجمل التالية وأن أقصف بها جبهة الأستاذ مباشرة ودون تردد: «القومية العربية نزعة جاهلية»، و»هي اختراع النصارى»، «دعوها فإنها منتنة»، «تقسيمات سايكس بيكو»، «هوية المسلم عقيدته»، «العلمانية كفر بواح».
على مستوى المجتمع، بدأ الانسجام يتلاشى داخل العائلة شيئاً فشيئاً، وصارت العلاقات بين الأشقاء والأقارب والجيران تُحدد وفق الفتاوى ووصايا الشيوخ، وأخذت علاقات النَّاس ببعضها تضطرب وتنقسم، وصارت بعض الفتاوى تغرس الكراهية داخل المجتمع، مثل القول بنجاسة الجار الفاسق، وعدم الترحيب بغير المسلم، والنَّظر إلى بناء الكنيسة بأنه عداء للإسلام. وظهرت الطائفية (التي ظلت كامنة لعصور خلت). وظهر لأول مرة «البنك الإسلامي»، وتحولت الأعراس الشعبية إلى أناشيد دينية، وانتشرت اللحى الطويلة (مع تحريم حلاقتها)، وظاهرة الدشاديش، واللباس الأفغاني، والنقاب، وكتب ابن تيمية وكتاب الكبائر، وعذاب القبر، وكاسيتات عبد الحميد كشك، وانصب الاهتمام على مظاهر تديّن شكلية، أخذت طابع التحريم، خاصة فيما يتصل بالملبس والمأكل، وتحريم كلّ سلوك اجتماعي ليس على أسلوب الإخوان، وانتشرت ظاهرة «الداعيات» في البيوت.. وأخذ المجتمع يُصبغ بصبغة العسكرة الدِّينية. وأخطر ما وصلت القوى الدِّينية بصحوتها، هو رخص الحياة، بإغراء الشَّباب لنيل الشَّهادة في سبيل الله، والحقيقة أنها كانت في سبيل الجماعة.
كان الوضع بالمنطقة، يسير لصالح ثقافة الإسلام السِّياسي، لذلك، تكيف أغلب المجتمع مع تلك المتغيرات الجديدة، واستجاب لها سريعا، فقد نشط في تلك الآونة العديد من الخطباء المفوهين، الذين برعوا في محاكاة عواطف الناس الدينية، واستغلال الظروف السياسية والاقتصادية البائسة التي كانت (وما زالت) تمر بها المنطقة، وصارت خطبة الجمعة (وخطبة العيدين) المنابع الرئيسة التي يستقي منها الناس فهمهم للدين.