عندما ترتدي الإمبراطورية بزة ترامب..!
أكرم عطا الله
عندما ترتدي الإمبراطورية بزة ترامب..!
الكوفية تعليقاً على وثيقة الرئيس الأميركي للأمن القومي تكتب مجلة «إيكونومست» بأن هناك تقليداً من أربعة عقود بأن يقدم الرئيس الأميركي تقريرا سنويا للكونغرس يشرح فيه استراتيجية الأمن القومي، ومنذ العام 1986 يقدم الرؤساء كما تقول المجلة، «وثائق مملة مليئة بالعبارات البيروقراطية المكررة لا يقرؤها سوى قلة، لكن استراتيجية دونالد ترامب هذه المرة صادمة».
ولكن لمن يعرف الولايات المتحدة وتاريخها وكيف نشأت كحالة فريدة وأنشأت إمبراطورية شديدة الفرادة، وكيف خاضت حروبا وأدارت ثورات وأسقطت زعامات وخلخلت مجتمعات، وكانت ذراعها السرية أطول كثيراً من أذرعتها المعلنة يدرك أن لا شيء صادما لدى امبراطورية كان التشبيه الأبرز لها هو ما أعطاه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل كسمكة القرش.
فهي تختلف عن الإمبراطوريات السابقة، وسمكة القرش تريد أن تلتهم كل ما في المحيط من كائنات حية وبشر وقراصنة وصيادين وكل شيء أمامها، كانت إحدى نبوءات المراقبين مطلع القرن أن عدد سكان الولايات المتحدة يمثل 5% من سكان العالم لكن من اجل أن تحافظ الولايات المتحدة على مستوى رفاهية أفرادها عليها أن تضمن خلال عقدين حصولها على ربع نفط العالم. أما كيف، فلم يكن ذلك مهماً بتقارير ريتشارد باتلر والسلاح النووي لدى صدام حسين وتجاوز مجلس الأمن واجتياح العراق وأفغانستان. كل هذه الوسائل لم تكن مهمة في سياق حاجة الإمبراطورية للطاقة، أما ما تركته تلك الحروب من ندوب وجروح في ذاكرة الشعوب فلا يعني شيئا.
تغيرت وسائل إنتاج الطاقة وأصبح لدى الولايات المتحدة فائض تطلب تغيير استراتيجيات الأمن القومي، فلا داعي للحروب من أجلها. هكذا تختصر وثيقة ترامب بين زمنين فصلهما ربع قرن لكنها لا تتنازل عن هيمنة إمبراطورية لم تجرؤ أي من الإمبراطوريات القديمة على محاولة الوصول لها، وأخطرها أن الولايات المتحدة تتمتع بقوة هائلة تؤهلها لتكون سيدة العالم بلا منازع وعلى الجميع الخضوع لتلك القوة الكاسحة، وما يقدمه رجل الكاوبوي نموذج إنذار للرئيس الفنزويلي نيكولا مادورو وهو ليس سوى واحد من تمظهرات تلك القوة الكاسحة.
في وثيقتها الجديدة، تعود الولايات المتحدة للانتباه لأميركا اللاتينية كحديقة خلفية، بعد أن اشتغلت منذ خمسينيات القرن الماضي حتى سبعينياته في تلك القارة تُسقط من تريد بانقلابات ومؤامرات وتنصب من تريد، في غواتيمالا على الرئيس آربنز وفي بوليفيا ضد الرئيس توريس وفي الأرجنتين على بيرون وفي تشيلي على سيلفادور أليندي. وبعد أن استقرت القارة منذ نصف قرن، عادت أميركا إليها من جديد، والبداية مادورو. فكندا وأميركا اللاتينية يجب أن تخضعا للغلاف الأميركي وهو ما بدا سابقاً أنه زلة لسان سقطت من الرئيس ترامب والآن يتضح هذا بأنه جزء من استراتيجيات. ربما سيكون هذا مريحاً للكثير من المناطق التي كانت الذراع الأميركية ثقيلة عليها كالشرق الأوسط الذي قالت الوثيقة، إنه لم يعد بتلك الأهمية كما السابق ... بسبب الطاقة أيضاً.
العام 2016، كان الرئيس أوباما في أسابيعه الأخيرة يستعد لمغادرة البيت الأبيض، وقبل إجراء الانتخابات وفي ذروة الاضطرابات في العالم العربي وصراعه الدموي على السلطة يجري مقابلة مطولة نشرتها مجلة «فورين أفيرز» يتحدث فيها كلاماً مهماً ظهر كعالم اجتماع يشخص المنطقة ويقول، «المنطقة العربية تعيد شحن توربينات العنف ذاتياً وعلى الولايات المتحدة أن تبدأ بنقل مصالحها نحو شرق آسيا كمنطقة واعدة وتترك هذه المنطقة العنيفة». ثم جاء الرئيس ترامب الذي أشار كذلك إلى تخفيف الوجود الأميركي في المنطقة بل وانسحابه منها. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن الإستراتيجيات الأميركية متصلة وليست متقطعة يحددها ساكن البيت الأبيض، بقدر ما أن هناك دولة عميقة ومؤسسات أمن قومي وحسابات المصالح الإستراتيجية هي من يملي السياسات.
الوثيقة تعكس تماماً ممكنات الولايات المتحدة وقدرتها على إخضاع العالم، فلماذا تقف مديونة تدافع عن الشرق الأوسط: وأوروبا و»الناتو»؟ بدأ ترامب بشعار: تريدون حماية ادفعوا ثمنها، في الخليج منذ ولايته الأولى. ثم انتقل لأوروبا في الحرب الروسية الأوكرانية بأن على القارة العجوز أن ترفع ميزانياتها الدفاعية وأن واشنطن ليس بلطجي الحي مجاناً. ثم تنتقل الوثيقة إلى أن تفقد الأمل من أوروبا باعتبار أنها ستشهد انهياراً حضارياً بفعل الهجرة في تحريض سافر كأن الولايات المتحدة ليست دولة مهاجرين، لكنه هنا يميز بين المهاجر الأبيض وباقي الأعراق.
لا ذكر لحل المسألة الفلسطينية وأن القوة هي من ستدير من خلف الستار العلاقات في المنطقة العربية، إسرائيل قوية وبرعاية القوة الكاسحة والعرب نحو التطبيع ومن لا يستجيب سيتم التعامل بمنطق الوثيقة. وها هو الرئيس السوري يقدم نموذجاً للعلاقات مع واشنطن من المطلوب الأول لمن يرشه الرئيس بالعطر، والعكس قد يحدث من رئيس أخلاقي ببساطة يمكن تحويله لإرهابي. أتذكرون قصة الدول المارقة؟
التحولات التي تشهدها السياسات الأميركية نحو «أميركا أولاً» وهي نتاج مجموعات ترى في فائض القوة ما يجب أن يتحول إلى خطاب سياسي وفعل سياسي بدل تراخي بايدن، ومجموعته تكشف بوضوح طبيعة الولايات المتحدة. ولكنها تطرح على العرب تحدياً أكبر حول طريقة إدارتهم لتلك العلاقة مع دولة من الواضح أنها أمامنا لعقود تشكل القوة الأولى في السياسة والسلاح ... التقرير ليس جديداً بل يعيد تعريف الإمبراطورية بطريقة أخرى، أتذكرون حين كان ينشر ترامب صوراً وهو يرتدي تاج الأباطرة؟
نقلاً عن الأيام